تُعدّ الصحافة بوصفها أداة اتصال وإبلاغ، ووسيلة لانتشار القيم الجديدة والتثقيف وإحداث التغيرات السلوكية والاجتماعية وفاعلاً سياسياً، واحدة من أكثر المؤثرات في المجتمعات الحديثة، وركناً أساسياً في الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية والشمولية،إذ يعيد استعمالاتها كلّ نظام حسب فلسفته السلطوية. ولعلَّ الصحافة كانت ولا زالت معياراً قياسياً لأنماط السُلط من ناحية طبيعتها السياسية؛ هذه وغيرها من السمات العامة لأثر الصحف ودورها. لكن السؤال الذي يفرض علينا الخوض فيه يتعلّق بطبيعة العلاقة بين الصحافة والفئة السياسية الحاكمة في العراق بعد 2003، وهو سؤال الطبيعة البنيوية لهذه الفئة من جهة وللانفجار الهائل في بركان الإصدار الصحفي بعد التاريخ المذكور أعلاه، بعيداً عن نوعية هذا الإصدار وحرفيته. في كتابه التاريخي الوثائقي (بَعث صَدّام) المستند إلى الوثائق السريّة العراقية التي تم الحصول عليها بعد سقوط نظام البعث، يشير «يوسف ساسون» إلى الأهمية المفرطة التي كانت توليها سلطة البعث ورجالاته والوزراء وحتّى صدام حسين شخصياً إلى ما يتمّ نشره في الصحف العراقية، رغم خضوعها جميعاً لمنطق واحد، وبخطاب واحد. لكنّها كما يشير الكاتب توفّر للحكومة وجهازها التنفيذي وحتّى لتنظيم الحزب الحاكم، معلومات دسمة وثريّة عن الأوضاع العامة وشكاوى الناس واحتياجاتهم، مثلما تقدم معرفة بالمؤسسات الحكومية من ناحية أداء واجباتها الخدمية عن عدمها بالإهمال والتقصير. رغم الانتشار العمودي والأفقي لوسائل التواصل، بالإضافة إلى الصُّحُف بعد 2003، فإنَّ ما يمكن ملاحظته الابتعاد الطَّوعي للفئة السياسية عن الصحف، بل انعدام العلاقة معها. ويشمل ذلك القسم الأعظم من شخوص هذه الفئة. وإذا حاولنا التوغل بشكل أكثر عمقاً سيصيبنا الاستغراب، إذ أن هذه الفئة قد اعتادت حتّى تذوق ما يوجّه لها من نقد لاذع وجارح لم يحرّكها من جمودها المثير للدَّهشة. وربما بقيت الصحف، لا سيّما الشهيرة منها، تتصف بالرصانة والالتزام بالضوابط المهنية الكابحة بما تنشره من مقالات رأي يحمل الكثير من رؤى جديدة ونافعة، وبعضها تشير إلى الفاعل السياسي ببواطن ومواقع الخلل والقصور، وتقرن ذلك بإضافة حلول ومعالجات ومقترحات. غير أن ذلك لم يستدعِ مِن هذه الفئة الموزَّعة على السلطات الثلاث رغبة الاطلاع ومعرفة ما يجري وما يدور في الشارع العراقي من خلال السلطة الرابعة، ومما يمكن رصده أن اغلب أفراد الفئة الحاكمة، وبعد أن أداروا عيون اهتمامهم عن أدبيات الصحافة الورقية والالكترونية وما تحمله من أفكار ووجهات نظر، التفتوا إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لا ليستقوا منها المعلومات والأخبار، وأكثرها غير موثوقة، بل ليستمتعوا بأطنان من كلمات السب والشتم، وبأنواع غير مسبوقة من السخرية الموجهة ضدهم؛ وأنشأ بعضهم مواقع وصفحات وهمية، وكوّن آخرون جيوش الكترونية تأخذ على عاتقها مهام محددة أهمها إثارة المشكلات، وتلفيق الاتهامات، والتسقيط وتشويه سمعة بعضها الأخرى، والمبادرة بالدفاع عن أصحابها، والذود عنهم بوجه خصومهم، والترويج للاشاعات وكسر هيبة الدولة. هذا ما يقومون به بدل استطلاع توجهات الرأي العام واتخاذ المواقف المتناغمة معها. ومن المثير والمريب أن ما يحصل هو العكس تماماً، فبدل احترام توجهات الرأي العام واعتماده كمصدر للإرادة الشعبية يميل أصحاب النفوذ إلى مخالفته، وكأنهم خُلقوا كمعارضة للشعب نفسه. تنشر الصحف الرصينة مقالات وتقارير لمتخصصين في كل أنواع المعارف والعلوم، كما تنشر موضوعات عن شكاوى النّاس وأسباب تذمرهم وسخطهم. وكل ما يُنشر معه حلول ومعالجات ومقترحات. بيد أن ما يحصل هو الإهمال لما تم نشره من مقالات مرموقة وجدية، إنْ لم نقل أن لا أحد من شخوص الفئة السياسية يقرأ ما تنشره الصحافة؛ وهذا ما يدعو للتساؤل عن أسباب هذا الجفاء السلطوي للصحافة، وهي صفة تختص في العراق حصراً. وهذا يتطلب دراسة الشخصيات المشار إليها دراسة اجتماعية ثقافية؛ ويمكن الاستنتاج بأن السهولة في الوصول إلى السلطة، وبلوغ مراتبها العليا، وضعف القدرات الثقافية لمعظم مَن ينتمي لهذه الفئة، كان له الأثر الأهم في هذا الجفاء. وربما كان تعويضهم بالحصول على المعلومة سماعياً وبصرياً من خلال القنوات الفضائية عاملاً مهماً، لكن حتّى هذه القنوات بما تقدمه من تقارير ومتابعات لم تك قادرة على تحقيق انتقالة من مرحلة الجمود والمعارضة إلى مرحلة إدارة الحكم والسلطة التي أمسكوا بها. ويبدو أيضاً إن فكرة الديمقراطية وآلياتها وعناصرها لم تتجذر عند هؤلاء، فالديمقراطية ليست سوى إجراء انتخابات لا أكثر، كما أن اعتمادهم على خطاب يستبطن العناوين الدينية والعقائدية هو أجدى وأنفع من خطاب الصحافة، وما تقدمه مراكز الأبحاث من طروحات ورؤى ومناقشات سياسية وثقافية واقتصادية نافعة؛ وما حصل فعلاً وخلافاً لما خمّنوه من انعدام قدرة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من إحداث فجوة بينهم وبين الناس، قد وقع في جميع دول العالم، يبدأ ساستها يومهم بمطالعة الصحافة والمواقع الرصينة إن لم يك لغايات سياسية وغيرها. لكن لمعرفة موقعهم وحجمهم الاجتماعي والسياسي ومدى ما يحظون به من رضا شعبي ومقبولية. إلا في هذا البلد فأغلب ساسته يعيشون وَهْمَ القبول الشعبي وتحديه أحياناً، ما دامت سلطتهم بِمأمَن. حدثني صديق عن حادثة جرت معه عندما كان طالباً جامعياً، فارسل شكوى إلى إحدى الصحف في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وفيها يشكو نيابة عن سكان منطقته تكدس النفايات في الشوارع. وفي عصر اليوم نفسه الذي نُشرت فيه الشكوى أبلغه مختار المنطقة أن عليه الحضور غداً إلى مبنى المحافظة. وفعلاً توجَّه في اليوم التالي إلى مبنى المحافظة وقد اعتراه الخوف دون أن يعرف سبب استدعائه. وعندما أبلغ من يعنيه الأمر بطلب حضوره أدخله إلى غرفة المحافظ ليجده مع مدير البلدية، وقد عاتبوه بأشد العتب على شكواه، وأخبره المحافظ بأن المفروض الاتصال بالمحافظة أو البلدية وعدم ابلاغ الصحيفة، وفي اليوم نفسه جرت حملة كبيرة بإشراف مدير البلدية لرفع كل النفايات. أما في أيامنا تنشر الصحافة أخبار الفضائح وصفقات الفساد الصادمة، لكن يبدو أن أهل السلطة لم يطلعوا عليها! * نقلا عن "المدى"
مشاركة :