ذات يوم وصلتني دعوة من مجموعة مثقفين مستنيرين جداً لدرجة أن الشخص الذي دعاني سألني سؤالاً واحداً، كانت الإجابة عنه كفيلة بـ«هل سيكون مرحباً بي أم يضيق الجميع ذرعاً بوجودي»؟كان السؤال هو: - إلى أي مدى تتقبل النقد؟ وما هو سقف حواراتك الدينية والثقافية؟ وبالتأكيد... قلت: - السقف مرفوع... والنقد موضوع... والسلف ممنوع!وعند اللقاء وعندما اجتمع الأصدقاء الذين تعرفت عليهم للتو واللحظة، ودارت النقاشات على قدمٍ وساق، وغزت المصطلحات والنظريات الجلسة، وشعرت أنني قد أضعت الكثير من عمري في غسل مواعين أمي رحمها الله وقت المراهقة، والذي قضيت أكثره في المطبخ وليس في المكتبة، فلو لم أضطر إلى غسيل المواعين كل يوم، لتوافر لي وقت أطول وفرصة أعظم لكشف سر الكون الفلسفي، وحفظ الكثير من المصطلحات التي كان يمكن أن أثري بها النقاش، وشعرت أنني أمام تحدٍ كوني، وبأن أي سؤال قد يوجهه أحد الجالسين لي هو شبيه بعملية صلب روماني أو إعدام حلبي، خصوصاً وأنه تمت دعوتي لهذا اللقاء الثقافي على اعتبار أني (كاتب كبير في جريدة «الراي»).ومن شدة الارتباك تذكرت قول المسيح في إنجيل متى وهو يقول «في هذه الليلة ستكون للثعالب أوكارها ولطيور السماء أعشاشها، ولكن ابن الإنسان ليس له على الأرض موضع يسند إليه رأسه».وفجأة نظر إليّ أكثرهم صمتاً، تعلو وجهه ابتسامة بريئة، وملامح شخص فقد اهتمامه بالعالم بعد أن عاش معه طويلاً دون أن ينسجم معه، وبدا وكأنه يتفرس ملامحي قائلاً:- يبدو أنك إنسان مثقف جدا... فهل تسمح لي بسؤال دون أن تعتبره تدخلاً شخصياً في حياتك؟شعرت بمشاعر مختلطة، بالفرح الشديد وتحقيق الذات وإشباع الغرور الإنساني لأنه أشار لي بكلمة «مثقف»، وبالملل من توقع السؤال الذي يُسأل لي دائماً من كل أولئك الذين يتفرسون ملامحي أو لهجتي... قائلين دائماً: «أنت كويتي؟». ولكنه بدلاً من ذلك سأل سؤالاً آخر: هل تقبل بأن يتزوج ابنتك رجل هندوسي؟في البداية استحضرت كل إجابات المثقفين أصحاب الرؤوس المنفتحة جداً للدرجة التي يمكن من خلالها أن ترى ما في رؤوسهم، وحاولت أن أقول إن قرار الزواج يعود لها وحدها وليس لي، وأنني رجل ديموقراطي متحرر أعيش بقيم عصرية وكونية إنسانية، وبأني على المستوى الشخصي لا أمانع في زيجة حضارية مثل هذه... كدت أن أنطق بكل هذا من أجل أن أبدو ذلك «المثقف» الذي أشار إليه في سؤاله! ولكني بدلاً من ذلك قررت السير في مسار آخر، الحقيقة كما هي في الواقع وليس على الورق.في علم الاجتماع هناك مقياس المسافة الاجتماعية، والذي يستخدم لتقييم مدى تحمل الفرد للدرجات المتباينة من الحميمية مع أفراد جماعة أخرى، من ذلك مثلاً أن شخصاً ما قد يسعد بوجود شريك عمل له من جماعة أخرى، لكنه قد ينفر من الدخول في علاقة اجتماعية معه، كما قد ينفر تماماً من فكرة الزواج من أحد أفراد هذه الجماعة، لا علاقة بمفاهيم مثل تقبل الآخر والتسامح بتطبيقات من هذا النوع، فالزواج تحديداً يمثل أعلى مستويات الحميمية على هذا المقياس، فهناك فرق بين أن أتعايش وأتقبل وأتسامح مع ذلك الرجل الهندوسي في الوطن وفي العمل وفي المناسبات... وبين أن أتقبله كفرد من عائلتي أو زوج لابنتي، فكما لا يولد الأطفال من تزويج الدمى، كذلك تختلف العلاقات بين الجماعات عنها بين الأفراد والعائلات... وهي سمة ظاهرة في آسيا والخليج تحديداً.كدت أن أنطق بكل هذا، ولكن الرجل بادر بسؤالين آخرين قبل أن أتكلم:- هل تقبل بحقوق المثليين؟ وهل عندك مشكلة لو أصبح ابنك ملحداً؟شعرت بالباريكوتان في صدري... ولعلك تسأل عن إحساس الباريكوتان؟حدث في يوم 20 فبراير عام 1943م، بينما كان الفلاح المكسيكي دنيس بويلدو يعمل في الحقل، أن ارتفع فجأة من وسط الأرض السهل التي تم حرثها عامود الدخان، وقد استحوذت الدهشة على الفلاح، وسرعان ما تحولت هذه الدهشة إلى رعب، وعندما بدأت الأرض كلها تهتز، فما كان من الفلاح دنيس بويلدو إلا أن انطلق يعدو هارباً بأسرع ما سمحت له به قدماه، وهو لا يدرك أنه شاهد للتو مولد بركان ما أن هبط الظلام حتى وصل ارتفاعه إلى 500 متر. وقد أُطلق عليه اسم باريكوتان.باريكوتان عزيزي القارئ هو ما يلخص لك مشاعري تجاه جلسة كانت مليئة بأسئلة عن البيكيني والحجاب والاختلاط والبارات والترفية ومعابد البوذا وزيارة البابا والتطبيع المسالم والحفلات والشذوذ والاحتفال بالكريسماس، ولماذا تمنع الكتب الإباحية... لعبة من التناوب التي تحبس الأنفاس وتعيد تكرار نفسها باستمرار كادت أن تجعل مني «باريكوتان» في جلسة ثقافية!قلت في نفسي، الحمد الله أنني قضيت الكثير من الوقت في...غسيل المواعين! @moh1alatwan
مشاركة :