الرأي اليوم / يا عَلِيُّ لا فَقرَ أشَدُّ مِنَ الجَهلِ | الإفتتاحية

  • 6/26/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في العاشرة من عمري، كنت أستاء من عبارة رددها معلمي كثيراً عقب كل سؤال وجواب. كان يسألني ورفاقي الطلاب، فإذا أجبنا بسرعة ومن باب التباهي بالمعرفة يفاجئنا بتلك العبارة: «مجهولاتك واسعة»، ثم يعطي الإجابة ويطلب التفكر دائما قبل الحديث... طبعاً كبر الضيق في صفنا حتى كدنا نقتنع أننا معشر جهلاء، فذهبنا إلى الناظر ليس للشكوى التي كنا نخشاها وإنما لـ«تمرير» المعلومة له في قالب طريف ومن باب الاستماع إلى نصحه، فكان الناظر يرد وفي دواخله سخط على طريقة الأستاذ المحبطة:«الأستاذ يا أحبائي يقصد إفهامكم أن الجهل عدو كبير للإنسان وهو نوعان بسيط ومركب، البسيط يعني عدم العلم بما من شأنه أن يكون علماً، والمركب هو الإصرار على شيء بأنه علم وهو ليس من العلم في شيء... فإن كنتم غير متأكدين من الإجابة استفسروا أولاً ولا تردوا على سؤال عن التفاح بجواب عن الموز». خفف الأستاذ من تركيزه على «مجهولاتنا» واستبدل بعبارته أخرى مثل:«معلوماتك ناقصة»، وخففنا نحن من «اللقافة» والإفتاء السريع في كل شيء، واستمرت علاقتنا بالناظر على قاعدة اكتساب المعرفة وصار يتبارى معنا في شرح بعض النصوص ويسألنا هل جهل هذا الشخص بسيط أم مركب؟ ثم يضحك ويقول:«تذكروا، من كان جهله بسيطاً واعترف بعدم معرفته بالشيء سيصبح عالماً بالكثير من الأمور لاحقاً، ومن كان جهله مركباً لن يموت إلا وهو جاهل»... ثم أتى لاحقاً من أضاف على المتمتع بالجهل المركب توصيفاً جديداً وهو «أن يجهل الشيء وهو لا يعلم بجهله فيجهل مرتين». أتذكر هذا الفصل من مسيرتي المدرسية وأنا أرى كل هذا الجهل في المسيرة العربية والإسلامية... وليته كان جهلاً بسيطاً. وأعود إلى عبارة المفكر الجزائري العربي الإسلامي المميز مالك بن نبي: «الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكاراً بل ينصّب أصناماً». تسمع من يخترق كل حدود الفضيلة والأخلاق والقيم ثم يقول لك بكل ثقة «إنها الحرية». وتشاهد من يخرق القانون ويدافع بعنف عن فعلته ثم يقول لك بكل ثقة «إنها الديموقراطية»، وتقرأ اعترافات أو تحقيقات مع سارق فاسد مرتشٍ يقول فيها بكل ثقة «إنه حقي» أو «خطأ بسيط»، وترتعب كل مسامات جسمك وأنت ترى شخصاً يذبح آخر أمام وسائل الإعلام أو يعدم العشرات ثم يقول لك بكل ثقة «إنه الدين». وهنا، كي يكون جهلنا بسيطاً لا مركباً يمكن أن نقول إن خيطاً جمع بين وثنية إلغاء الفكر وبين تنصيب أصنام فكرية أباحت انتهاكات القيم والحريات والقانون... وصولاً إلى الإساءة الكبرى للدين الحنيف.أما المصيبة الكامنة في الجهل المركب فهي أن لكل نموذج من هؤلاء أتباعاً وأنصاراً ومعجبين ومفتونين أكثر من نظرائهم الذين عبدوا أصنام التمر والحجارة في الجاهلية. نعيش زماناً جاهلاً تزحف فيه المجهولات على المعلومات. زمان تصعب فيه مقاومة هذا العدو الذي لم تحسب الحكومات العربية والإسلامية له حساباً إذا انفلت في الشوارع... كان «الزعماء» يعتبرون تجهيل الناس سلاحاً في يدهم للاستمرار بالسلطة والحصول على رخصة بقائهم من صاحب النفوذ الأميركي أو الغربي، فالسلطة لهم وللحاشية والأهل والأنصار، والتجارة والمال والأعمال والعلم كذلك، وأي تغيير سيعني تغيير النخبة الراقية لمصلحة غالبية جاهلة... حتى وصلنا فعلاً في بعض مراحلنا ونحن في الألفية الثالثة إلى نظرية الكواكبي في الاستبداد حين قال إن من أقبح أنواعه «استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل»، فالنفس المستبدة أقرب إلى الجهل منها إلى العقل، والجهل المستشري عدوه الرئيسي العلم. كان صوت المعركة أعلى من صوت العلم في العلم العربي لأن صوت العلم يبني مجتمعاً متقدماً لا سلطةً مستبدة فحسب، وكان تباهي السلطة بوهم الإنجازات العلمية والحضارية لـ«الشعب» نوعاً من الجهل المركب لأن لا أساس لكل ما تباهت به، والحقيقة العلمية الوحيدة التي انكشفت عند أول تغيير تمثلت في بناء الأجهزة الأمنية وبعض الجسور والجداريات والصور والتماثيل... هذا الواقع الضاغط مع تجاربه المريرة جعل الناس أسيرة خيارين: استبداد سلطة مع حد أدنى من الأمان مقابل الصمت أو استبداد جهل مع حد أعلى من الغوغائية والفوضى مقابل التغيير. وبعيداً عن مستويات السلطة أو الحكم، نرى الجهل في كل مناحي الحياة، هنا وهناك، مع فارق أن تطور الغرب الفكري والدستوري والعلمي والحضاري والتشريعي أنتج آليات وضوابط للدولة والمجتمع تمكنهما من هضم الجهالات الطارئة واستيعابها وإبقائها قيد الملاحظة أو العلاج، أما عندنا فإذا انفلت الجهل من عقاله فإنه لن يرحم مؤسسة ولا مجتمعاً... ديدنه في ذلك بيت المتنبي:«أماتكم من قبل موتكم الجهل... وجركم من خفةٍ بكم النمل» وهو نفسه من قال «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم». والمصيبة في جهل المسلمين أن عقيدتهم تعتبر العلم عبادة والعمل عبادة والتحضر عبادة، بل هي قامت في ركيزتها على إعمال العقل في معرفة الخالق والخلق وشؤون العبادة وإعمار الدنيا... ثم يأتي من يقول لك بعدما يبقر الجنين بسكين في بطن أمه إن الدين أمره بذلك. أختم بأجمل ما قرأت عن الجهل، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم:«صَديقُ كل امرئ عقله وعدوه جهله»، وإذا كان الإمام علي كرم الله وجهه قال يوماً «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، فإن علياً نفسه نقل عن الرسول الكريم قوله له ذات يوم: «يا عَلِيُّ لا فَقرَ أشَدُّ مِنَ الجَهلِ». تصبحون على... علم. جاسم مرزوق بودي

مشاركة :