صحيح أن الثورة السورية هُزمت؛ لكن ما الذي انتصر؟ أخبار الأسابيع القليلة الماضية متخمة بالأحداث والمعاني التي يمكن إدراجها تحت عنوان كبير: العائلة. والعائلة اليوم تستفرغ إنجازاتها فوق الوطن. هذا هو الجواب عن السؤال أعلاه. لكنْ قبل استعراض بعض ما حدث، وما زال يحدث، لا بأس بشيء من التذكير بماضي العائلة والقرابات في النظام السوري، للقول إن هذه السمة جوهرية في النظام. إنها النظام. فإبَّان صراع حافظ وشقيقه رفعت، مطالع الثمانينات، وكان مرض الأول قد فتح معركة الوراثة، وُضعت سوريا بأسرها أمام احتمال حرب أهلية. لكننا، في تلك الغضون، بِتنا مُلمِّين بأسماء أبناء وبنات حافظ ورفعت وشقيقهما الثالث جميل، ومن صاهروا ومن صاهرهم. صرنا نعرف كثيراً عن أذواقهم وطباعهم وأخلاقهم، فضلاً عن العلاقة بينهم، وبينهم وبين أصهارهم أيضاً. صرنا على بينة من الموقع الذي يحتله كل منهم في سلم الرضا والتقريب والتبعيد الذي تمنحه والدة حافظ، ناعسة، ثم زوجته، أنيسة، وموقف الأقرباء اللزاميين حيال كل واحد منهم. إبَّان الثورة، مع مقتل الصهر آصف شوكت، عادت هذه الأخبار إلى الواجهة. مَن قتل آصف شوكت؟ (مَن يتذكر: من أطلق النار على جي آر؟). ما علاقة بشرى، الأخت، بالزوجة، أسماء؟ وما علاقة أنيسة بالاثنتين؟ وبين شهر وآخر، كانت تهاجمنا الشائعات فيما خص ماهر الذي «يُجرح» أو «يُقتل» أو «يتهيأ للوراثة»، ودائماً يظهر في العائلة من يحبذ هذا على ذاك أو العكس. على نطاق أضيق، تكرر شيء من هذا حين تباينت مواقف عائلتي الأسد وطلاس. ذاك أن صلة حافظ بمصطفى طلاس كادت تكون عائلية؛ فضلاً عن الحزب الواحد والشراكة في عدد من المؤامرات وفي السلطة، وفي الثروة، كانت الأمثلة تُضرب بصداقتهما. أبناء «سيادة الرئيس» و«السيد وزير الدفاع» ربطتهم علاقات حميمة لم تستثن البيوت والمدارس وأمكنة اللهو. لكنْ بالطبع، ظلت القصة الأشهر والأكثر ديمومة قصة العلاقة بين عائلتي الأسد ومخلوف، منذ اقتران حافظ بأنيسة. زواجهما لم يكن مجرد زواج: لقد طال الترقي الاجتماعي الذي حل على العريس تبعاً لمصاهرته عائلة أعلى كعباً، وطالت شظايا الزواج علاقة حزبي البعث (الأسد) والسوري القومي (مخلوف). ولم تنجُ القيم من تداعيات الزواج؛ ذاك أن «الوفاء» يقتضي رد الدَّين لمحمد مخلوف، شقيق أنيسة وحبيب قلبها. محمد صار مليونيراً. هذا العفن هو بالضبط، وليس هزيمة الإمبريالية الأميركية، ما انتصر. اليوم يسجل هذا العفن نصراً جديداً نقله إلى العلن شريطا فيديو بثهما ابن الخال، رامي، عن ابن العمة، بشار، بعد أيام على انكشاف خبر اللوحة التي اشتراها الأخير لزوجته مقابل ثلاثين مليون دولار. وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لم تترك مكاناً للحيرة بشأن هذا «العلم» وأبطاله وتفاصيله. وقد لا تكون كل المادة المتوفرة دقيقة بالضرورة؛ لكن المناخ دقيق. تردد – مثلاً - أن محمد، خال بشار ووالد رامي، فر إلى روسيا، وأن ابنه، إيهاب، أقيل من مناصبه. وبحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، اعتُقل 28 من مديري شركات مخلوف. شقيق رامي، ضابط المخابرات وصاحب اليد الغليظة حافظ مخلوف، لم يُسمع عنه شيء؛ لكن أخباره لن تتأخر. تردد أيضاً أن أسماء، الزوجة، هي التي تشرف على لجنة الاقتصاص من آل مخلوف ونفوذهم، وأنها ترشح ابن خالتها المدعو مهند دباغ للحلول محلهم (يبدو أن شيئاً من جيانغ كوينغ، زوجة ماو تسي تونغ، يختبئ في أسماء). كذلك تردد، في معرض التداعيات الزلزالية للحدث، أن مشروع زواج بين محمد، نجل رامي، وابنة الشقيقة بشرى، قد أُحبط. بعض المصادر تحدثت كذلك عن السماح لبعض أبناء رفعت، المعروفين بالعداء لآل مخلوف، بالعودة وإقامة مشروعات تجارية في سوريا (وإلا ماذا يفعلون؟!). المعركة التي سيعاد بموجبها ترسيم الحصص وتوزيعها، لا تخلو من أسلحة ثقيلة. البعض يقول إن روسيا وإيران متورطتان فيها، ما يوحي بأن فروع العائلة وأجبابها ماضية في بناء سياساتها الخارجية وتوجهاتها الدبلوماسية. لكن المؤكد أن التسريب على أشده: فهناك من سرَّب خبر اللوحة المهداة من بشار إلى زوجته، ومن سرَّب، في المقابل، اتهام رامي بشحنة تهريب إلى مصر، ضبطتها السلطات المصرية التي وجدت المواد الممنوعة معبأة في علب حليب تنتجه شركة «ميلك مان» التي يملكها رامي نفسه. في هذه الغضون، كانت أخبار عائلية أخرى تشغل بال المهتمين: غموض الوضع الصحي لكيم جونغ أون، واحتمالات الوراثة المطروحة هناك. وكما نعلم، ففضل النظام الكوري الشمالي على النظام السوري مزدوج: علَّمه التوريث الجمهوري بعدما أوحى له بفكرة «طلائع البعث». لكنْ في تلك الغضون نفسها، وفي أول محاكمة من نوعها لجرائم الحرب في سوريا، كان ضابطان سوريان، أحدهما عمل تحت إمرة حافظ مخلوف، يمثلان أمام المحكمة العليا في ألمانيا، بينما الطائرات الإسرائيلية تتمادى في الأجواء السورية لا تردعها «هدنة كورونا». لماذا كان ينبغي أن تنتصر الثورة؟ يُفترض أن أحداث الأسابيع القليلة الماضية توفر الجواب لمن لم يملك جواباً بعد. نقلا عن "الشرق الأوسط"
مشاركة :