يقول المثل «البئر الجيد يعطيك الماء عند القحط، والصديق تعرفه عند الحاجة» وجائحة كورونا كوفيد 19 التي عصفت بالعالم مؤخراً جعلت دولاً عظمى بأوروبا وأمريكا تدرك أن بئر الصحة لديها قد تبخر ومياهه صارت في الطرف الآخر من الكرة الأرضية عند التنين الصيني، وهكذا فجائحة الكورونا لم تضرب فقط اقتصاديات العالم بل كشفت ضعف وعوز القطاع الصحي في الدول الغنية الغربية. إن العولمة رغم إيجابياتها في مساعدة اقتصاديات العالم الثالث في التطور إلا أنها أيضا فتحت باب هجرة رؤوس الأموال مع الكثير من الصناعات مثل صناعة الأدوية والمستلزمات الطبية من الدول الغنية لتتركز في الدول أو المناطق ذات التكلفة الإنتاجية المنخفضة مثل الصين والهند لدرجة أن أمريكا باتت تستورد 90 % من احتياجاتها لدواء المضادات الحيوية من الصين. إن العولمة تزكي فتح الحدود الاقتصادية أمام الصناعات والتكنولوجيا إلا أن دولاً مثل الصين استطاعت أن توظف العولمة لصالحها بفرضها أساليب حمائية لدخول الشركات العابرة للقارات والعمل على أراضيها ومن خلال لعبة التحكم بعملتها وسرقة البراءات والاختراعات بشكل مقنع وخلق سوق بديلة وصناعات التقليد كما استطاعت أن توظف قيام شركاتها البديلة للتحكم بالتكنولوجيا الصناعية وتطوير سوقها الداخلي وتستقطب أغلب الصناعات الحيوية مثل الأدوية لأراضيها وتطور اقتصادها الداخلي لينمو بمعدلات متسارعة خلال العقدين الأخيرين. من إرهاصات العولمة أنها لم تكن ببعض الجوانب عادلة، والآن بات الأمريكان ينظرون للصين وحتى لو لم تكن الصين منافساً شريفاً أو دولة ديكتاتورية أو كليوتوقراطية أن الخطر الأكبر هو تركز أغلب أدويتهم أو مكوناتها في الصين لأنه من الواضح أنه في زمن الجوائح تصير الأولوية الطبيعية للمواد والمستلزمات الطبية هي للدولة التي تصنعها لذلك من المرجح بعد استقرار جائحة الكوفيد 19 أن تقوم الدول الغربية بتوزيع المخاطر (Risk Diversification ) فبدل الاعتماد على دولة واحدة في إنتاج المعدات والأدوية والمستلزمات الطبية ستقوم بتصنيعها في عدة دول وتقدم محفزات اقتصادية لعودة هذه الصناعات للتصنيع المحلي واعتبارها صناعة حيوية. لذلك فإن هذه الجائحة سوف تغير منظر اقتصاديات الدول الكبرى وفرز الكثير من الصناعات والتي قسم منها كان يعتبر صناعات تحويلية لتصير صناعات حيوية وعلى رأسها الصناعات الدوائية والطبية وتطوير الخدمات الصحية. من مفرزات الجائحة على الصعيد الأخلاقي هي جدلية خصخصة أو تعميم قطاعي التعليم والصحة لأن الكثير صار يرجح الفكرة القائلة إنه عندما تنظر للطلبة والمرضى على أنهم زبائن ويكون المحتوى الدراسي والدواء أو العلاج هي السلعة القابلة للتفاوض فحتماً أن المؤسسات التعليمية والصحية ستتحول لمؤسسات سامة (Toxic Institutions) ومستقبل الأوطان سيكون حتماً محكوماً بالحظ. وكما علمتنا الأزمات المالية الأخيرة وزكت فكرة اختبار الجهد المالي للبنوك كإجراء وقائي فيصبح من الضروري أيضاً تطوير اختبارات الجهد الطبي للقطاع الصحي بشقيه الخدمي والتصنيعي في البلدان المتطورة وتطوير البروتوكولات الحمائية لتكون فعالة أكثر في المستقبل القريب. وسيعود المثل الإنجليزي القائل «الصحة خير من الثروة». كما يبدو أن الأمريكان سيطورون مفهوم السلع الاستراتيجية لديهم فبعد أن كانت تحتوي على النفط والأسلحة فستتوسع لتتضمن الأدوية والصناعات الصحية والتكنولوجيا الرقمية، فهم باتوا ينظرون بعين الريبة لصعود الاقتصاد الصيني السريع وتقدمه في سباق التكنولوجيا وخاصة بعد إطلاقهم للجيل الخامس في ثورة الاتصالات بالإضافة للتحكم بصناعات غدت حيوية وستجبر العالم الغربي على إعادة حساباته في التعامل مع التنين الصيني والعولمة وفتح الحدود.
مشاركة :