الوضع في تونس بعد انفراج أزمة الوباء لن يكون كما قبله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بعد ما اكتشف الناس هشاشة التحالف الحكومي وغياب بدائله، فضلا عن الصراعات اليومية بين مكوناته ورغبة كل جهة في الاستفادة من الأزمة لحسابها الخاص ولو بالهجوم على الحكومة وإرباك خطط وزرائها. ورغم محدودية تأثير دعوات حل البرلمان وإسقاط الحكومة، فإن الخلاف الأكبر بين القوميين وحركة النهضة هو ما سيقود إلى تسريع نهاية التحالف. فشل التحالف الحاكم في الحفاظ على تماسكه بالرغم من أن البلاد كانت في أوضاع صعبة بسبب وباء كورنا، وهي أزمة كان يفترض أن تساعد في تقوية التحالف ولو مؤقتا، لكن تركيبته القائمة على المحاصصة وتقاسم المغانم فشلت في الصمود، وبسرعة انتقل الضرب تحت الحزام من التلميحات، ونشاط الذباب الإلكتروني الذي يستعمل عادة لتوجيه الرسائل بين الفرقاء الجالسين على نفس طاولة الحكم، على الحرب العلنية بين حركة النهضة الإسلامية وقيادات من حركة الشعب، وبين النهضة وقيادات من التيار الديمقراطي. ورغم التسويق الإعلامي لسردية أحزاب الثورة والمصالح المشتركة في السيطرة على الحكم، وهي سردية اشتغلت عليها ماكينة “محايدة” تدور في فلك النهضة أو هي خادمة لها بشكل أو بآخر، فإن الخلاف التاريخي بين الإسلاميين والقوميين ظل في حالة تأهب ينتظر أي إشارة لينفجر، وهو ما حصل فعلا بفعل إحساس حركة الشعب أنها تسير في تحالف حكومي خادم لخصمها التاريخي، وأن “حكومة الرئيس” التي أريد منها محاصرة النهضة تحولت إلى غطاء لتنفيذ أجندتها العميقة في الهيمنة على الدولة من وراء الستار. كان القوميون وراء فكرة “حكومة الرئيس” ودافعوا عنها، ونجحوا من خلالها في “افتكاك المقود” من النهضة كما قال أكثر من قيادي من حركة الشعب، ودافعت الحركة عبر قياديين سابقين عن خيار تحالف يضم قلب تونس إلى “حكومة الرئيس” يفضي إلى عزل النهضة، لكن الأمور لم تسر كما يريد القوميون في ظل تقاطعات مختلفة داخل المؤسسات المالية والنقابية وحتى دوائر خارجية كانت تنصح بإشراك النهضة في الحكم لضمان حد أدنى من الاستقرار. تحالف يقتله التاريخ "حكومة الرئيس" التي أريد منها محاصرة النهضة تحولت إلى غطاء لتنفيذ أجندتها العميقة في الهيمنة على الدولة من وراء الستار يحاول الفخفاخ الإمساك بتوازن صعب، بإرضاء النهضة بدرجة أولى والحفاظ على تحالفه مع التيار الديمقراطي كونه الحزب الأقرب إليه سياسيا وفكريا، والحزب الذي رشحه لرئاسة الحكومة. وإلى حد الآن، ورغم الخلافات بين النهضة والتيار وحملات الذباب الأزرق والبرتقالي، فإن الحزبين يحافظان على شعرة معاوية في العلاقة بينهما، فلكل منهما مصلحة حساسة في استمرار الحكومة، وإدارتها بتوافق يقوم على المحاصصة ومراعاة المصالح، وهو ما يستفيد منه الفخفاخ في إبقاء حكومته بتوافق الحدّ الأدنى. ورغم أن التحالف بين التيار وحركة الشعب هو نواة “حكومة الرئيس”، إلا أن هناك بوادر واضحة على افتراق مصالح بينهما، فالتيار يريد الاستفادة من بقائه في الحكومة وخاصة من جلباب الرئيس قيس سعيد. لكن حركة الشعب لم تقدر على تحمل التحالف الحكومي مع النهضة، وهو تحالف قاد إلى خلافات داخلية بدأت تخرج إلى العلن من خلال هجمات قوية تتجاوز كل ضوابط التحالف السياسي مع النهضة لأسماء بارزة مثل النائبين سالم الأبيض وهيكل المكي، وهي هجمات تهدف لفك هذا الارتباط وإظهار أن النهضة هي العدو الاستراتيجي لحركة الشعب، ومغازلة القاعدة الحزبية للحركة التي لم تستوعب بعد كيف يتم التحالف مع “الإخوان”. وكان التقارب مع النهضة، ثم لاحقا دخول سالم الأبيض وزيرا للتربية في حكومة الترويكا2، قد قاد إلى خلافات داخل حركة الشعب أفضت إلى انشطارها بين حركة الشعب، والتيار الشعبي الذي أسسه الراحل محمد البراهمي قبل أن يقع اغتياله في فترة حكم الترويكا. والآن يجري الحديث عن خلافات بين شق الأمين العام زهير المغزاوي الذي يدعم التهدئة مع النهضة وشق يضم قيادات تاريخية للطلبة العرب تحث على المزيد من تجذير الخلاف مع الإسلاميين، وهو ما عكسته رسالة هيكل المكي للغنوشي من تصعيد تم التخلي فيه عن البروتوكول وأعاد الصراع إلى مراحل قديمة مع “الإخوان المتأسلمين” كما قال المكي. ومن الواضح أن القوميين لم يهضموا بعد كيف يتم التحالف مع “الإخوان” العدو التاريخي لهم في استدعاء لصورة الصراع التاريخي من حادثة المنشية في عام 1954 مرورا بميراث الاغتيالات والاعتقالات وقصص السجون التي كونت ميراث المظلومية لدى الجماعة الأم للتنظيم الدولي، كما شكلت حالة عداء لدى القوميين لا يمكن أن تقفز عليها محاولات التقريب وعروض الشراكة السياسية في أي قطر من الأقطار. وأثبتت “الانتكاسة” السريعة في أول تحالف رسمي بين القوميين والإسلاميين في تونس (هناك تحالفات انتخابية محدودة في قطاعات مهنية تحكمها الانتهازية) أن خيار التقريب الذي تم الاشتغال عليه في تسعينات القرن الماضي من خلال مؤسسة مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بزعامة خيرالدين حسيب، وما عرف وقتها بالمؤتمر القومي الإسلامي، يظل مجرد ترف فكري أو “تواضع” مرحلي أفرزته ضربات قوية وجهت للإسلاميين الذين يستخدمون هذه المداخل لإعادة التموقع السياسي وكمنابر احتياط لمواجهة الأنظمة التي كانوا في خلافات معها. والنتيجة، فإن حركة الشعب تضع الآن ساقا مع الحكومة وساقا أخرى خارجها في مغازلة واستثمار لدعوات الاعتصامات بهدف حل البرلمان، وهي دعوات يأتي بعضها من أنصار الرئيس سعيد، الذين يريدون استثمار هذه الموجة لحل البرلمان وبناء الديمقراطية الشعبية التي يخططون لها، وحركة الشعب تأمل في أن تظل تحت جلباب الرئيس لاستثمار شرعيته وشعبيته، وخاصة الاحتماء به في مواجهة النهضة. ولا يستبعد انسحاب حركة الشعب من التحالف الحكومي في القريب العاجل، وهو ما مهدت له بالتصريحات القوية ضد النهضة وخاصة باستهداف رمزية الغنوشي، لكني أستبعد حاليا أن تنسحب النهضة من الحكومة وأن تلجأ إلى خيار الحكومة البديلة لأن هذه الخطوة قد تعمق عزلتها وتقوي صف خصومها من خارج التحالف الحكومي. والأقرب أن تستمر حكومة الفخفاخ حتى لو فقدت أحد أضلاعها، أي حركة الشعب التي تغازل “الثورة المضادة” لحركة النهضة في محاولة لاستثمارها في تثبيت العداء التاريخي مع الإخوان وقطع الطريق أمامهم. لكن أزمة حكومة الفخفاخ ليست سوى وجه من وجوه الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد ما يزيد من الضغوط عليها ويربك أداءها ويجعل استمرارها أمرا صعبا، وخاصة في ضوء أزمة البرلمان الدائمة التي كشفت عن طبقة سياسية مهزوزة وفاقدة لأدوات إدارة الصراع. ورطة البرلمان زاد الخطاب الذي يظهر في البرلمان، في تأكيد ما يشبه القطيعة بين الطبقة السياسية الجديدة الوافدة إلى مؤسسات الدولة، والناس التي ملت من اللعبة السياسية والصراعات وباتت تطالب أحزاب التحالف الحكومي بحلول عملية وسريعة، خاصة مع مخلفات وباء كورونا زاد الخطاب الذي يظهر في البرلمان، في تأكيد ما يشبه القطيعة بين الطبقة السياسية الجديدة الوافدة إلى مؤسسات الدولة، والناس التي ملت من اللعبة السياسية والصراعات وباتت تطالب أحزاب التحالف الحكومي بحلول عملية وسريعة، خاصة مع مخلفات وباء كورونا بات واضحا أن الطبقة السياسية الحالية لم تكن في مستوى الانتقال الذي جرى في 2011، وأن موقعها في المعارضة خلال فترة حكم الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي جعلها خارج الدولة وأزماتها وبدائلها. لكن ما تبدى للعيان خلال عشر سنوات من الثورة كشف أن المعارضات بوجوهها الإسلامية والقومية واليسارية لا تمتلك بدائل ولا قيادات كما أنها لم تنجح في تربية أنصارها على قيمها وأفكارها، وأن الأمر لا يتعدى مجرد غلاف سطحي من الشعارات أغلبها تعيش على نقد السلطة وتعتاش على الإشاعات المحيطة بها، خاصة أن هذه المعارضات تم استخدام أغلبها أوراق ضغط في صراع قوى النظام المختلفة، وتستمر في لعب هذا الدور الآن بشكل أو بآخر. وزاد الخطاب الذي يظهر في البرلمان، ومن نواب من كتل مختلفة، في تأكيد ما يشبه القطيعة بين الطبقة السياسية الجديدة الوافدة إلى مؤسسات الدولة، والناس التي ملت من اللعبة السياسية والصراعات وباتت تطالب أحزاب التحالف الحكومي بحلول عملية وسريعة، خاصة مع مخلفات وباء كورونا وظهور المؤسسات الحكومية في موقف ضعيف ومرتبك في غياب خطط الاستباقية. وتأتي الدعوات لحل البرلمان، وبقطع النظر عن الأجندة التي تقف وراءها، معبرة عن رأي عام واسع في الشارع التونسي بات يعتقد أن البرلمان الحالي لا يصلح وأن استمراره سيزيد من الاحتقان وتيئيس الناس في الإصلاح والتغيير من برلمان عاجز عن إدارة حوار داخله وضبط خطاب بين مكوناته فكيف يمكن أن يتولى إصلاح قطاعات حكومية وإخراجها من الإفلاس، أو كيف يمكن أن يواجه الفساد بقوة عبر سن القوانين ومراقبة أداء الوزارات، وهو الذي يُتهم بعض المنتمين إليه بالفساد بشكل مباشر وعلني. حركة الشعب تأمل في أن تظل تحت جلباب الرئيس لاستثمار شرعيته وشعبيته، وخاصة الاحتماء به في مواجهة النهضة المشكلة في البرلمان ليست محاولات الترذيل، كما يقول نواب التحالف الحكومي، ولكن في نوعية النواب الذين صعدوا وأغلبهم بلا أفكار ولا برامج، والأسوأ غياب رصيد أخلاقي في حده الأدنى لإدارة الصراع مع الخصوم، بل داخل التحالف الحكومي نفسه، حيث لا تحوز المشاريع الحكومية على دعم كل نواب التحالف. ولا تعبر الدعوات إلى حل البرلمان وإسقاط الحكومة المنبثقة عنه سوى عن ردة فعل على فشل الطبقة السياسية، خاصة في ظل غياب البدائل وانتهازية جزء واسع من السياسيين الذين يمكن أن يكونوا في هذا الحلف اليوم وغدا ينقلبون عليه بسرعة لحسابات المصالح، وهو أمر انعكس سلبا على الوضع الاقتصادي الذي سيدخل مرحلة ركود طويلة وفق تقديرات المؤسسات المالية الدولية. كما انعكس الأمر على مواقف تونس وسياستها الخارجية التي صارت مرتبكة ومتناقضة وتتحكم فيها الأمزجة في تناقض مع صورتها القديمة القائمة على الوضوح والمبادرة، وهو ما أثر على المصالح الاقتصادية وأفقد البلاد فرصة الدعم الخارجي، فضلا عن انكماش الاستثمارات والمشاريع والرهان الكامل على القروض والمديونية. وما يزيد من تعقيد الوضعية السياسية للتحالف الحكومي، هو الخلاف الذي خرج للعلن بين مؤسسة رئاسة الجمهورية وبين حركة النهضة بسبب الصلاحيات ليتحول لاحقا إلى سباق حام على الشعبية وسط اتهامات من جمهور النهضة لمؤسسة الرئاسة بأنها تغذي الدعوات لحل البرلمان والتخطيط لتنفيذ ما تعهد به الرئيس قيس سعيد من بناء ديمقراطية شعبية تحل محل الديمقراطية التمثيلية الخادمة لرجال الأعمال. وأظهر البيان الأخير لمجلس شورى النهضة مخاوف الحزب ذي المرجعية الإسلامية مما أسماه “إرباك المسار الديمقراطي التونسي، وإضعاف مؤسسات الدولة في ظل تحديات صحية واقتصادية استثنائية”. وعبر البيان عن استنكار الحركة لما وصفته بـ”التصريحات السياسية والممارسات التي تغذي الخلافات وتضعف مجهود الدولة في السيطرة على وباء كورونا وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي”. وبالنتيجة، فإن التحالف الحاكم يعيش وضعا صعبا لكنه يكابر ويستمر في إدارة الشأن العام بأسلوب يقوم على تبريد الأزمات بشكل ظرفي خاصة العلاقة مع رجال الأعمال واتحاد العمال، لكن الأمر لن يطول كثيرا مع بدء إحصاء خسائر الوباء ولعل أهمها خسارة الآلاف من الوظائف في القطاع الخاص.
مشاركة :