عاش الفنان الراحل زكي طليمات (1894- 1982) حياة مديدة وعامرة بالمحطات المهمة، عاصر خلالها العديد من التحولات الكبرى، اجتماعياً وسياسياً وثقافياً. والفنان الذي يعتبر من أوائل العرب الذين درسوا فن المسرح في أوروبا، اشتغل بالإخراج والتمثيل والنقد والإدارة المسرحية، وهو مؤسس أول معهد مسرحي في مصر (1931)، وأول مدير للمعهد ذاته حينما أعيد افتتاحه مطلع أربعينيات القرن الماضي، وله دور رائد في إدراج فكرة المسرح المدرسي في مصر، كما ساهم لاحقاً في تطوير النشاط المسرحي في عدد من الدول العربية في المشرق والمغرب. وقد كتب طليمات معرفاً ودافعاً بالعديد من أعلام ومشاريع ومؤسسات المسرح العربي إلى الواجهة، إلا أنه لم يكتب الكثير عن سيرته الشخصية، برغم تعدد وتنوع التجارب العجيبة التي اختبرها في حياته. ويبدو أنه حاول فعل ذلك لمرة واحدة، ولكن باقتضاب ملحوظ، فكتب حول ثلاثة محاور أثرت به، وهي الدين والمرأة والمسرح. لعل من المناسب، في البداية، أن نشير إلى أن طليمات ما كان له أن يتوجه إلى المسرح، لولا حادثة شبيهة بهذه التي نعيشها هذه الأيام مع جائحة الكورونا، فهو كان يخطط لأن يكون مدرساً، ولهذا التحق بمعهد التربية، وصار من أبرز المتفوقين به. لكن في السنة الأخيرة، وبينما كان يستعد لخوض الامتحان النهائي، مرضت والدته بحمى التيفوئيد، فطلبت منه إدارة المعهد ألا يحضر إلا بعد مرور أكثر من شهر على شفاء والدته، لئلا تنتقل العدوى عبره لطلاب المعهد، فاضطر طليمات للبقاء في المنزل، ولما لم يكن لديه ما يعمله شرع في كتابة نص مسرحي، وأعجبت فرقة جورج أبيض بالنص، وقبلت تنسيب كاتبه إلى عضويتها، بعدما كانت مترددة في قبوله. لم يرجع طليمات بعد شفاء أمه إلى المعهد، بل واصل في المجال المسرحي. وبعد ثلاث سنوات لم يعجبه الحال المسرحي، فبحث عن عمل، حتى علم أن مدير حديقة الحيوان في حاجة لموظف شاب يجيد اللغة الإنجليزية، فتقدم إلى الوظيفة وكسبها. وتآلف طليمات مع القرود أثناء عمله في الحديقة، وراح يمضي وقته بجوارها ويحاكيها، وهو قال في مقابلة مع البرنامج التلفزيوني «لقاء مع فنان» إنه تعلم فن التمثيل من تلك القرود. وبينما هو يعمل في الحديقة، سمع عن مسابقة في التمثيل تقيمها الدولة، فشارك بها، وربح المركز الأول، وظفر نتيجة لذلك ببعثة لدراسة التمثيل في فرنسا على نفقة الدولة. طليمات، وهو من أب سوري وأم تركية، ذكر في اللمحة السيرية التي دونها في مجلة «الهلال» [أول مارس 1974] أن الصلاة بوقفاتها الخاشعة وسجداتها المتوسلة كانت تستهويه من دون أن يعرف السبب، فكان يباشرها بمتعة ووجد، كما كان ترتيل القرآن يسحره، وحلقات الذكر كانت تجذبه، وتثير نشوة مبهمة في جوانيته تماثل تلك التي كان يحسها حينما يقلد حركات الناس من حوله، حتى يفوز باستحسانهم. الفلسفة والقلق المحور الثاني الذي تطرق إليه، كان الرحلة إلى باريس التي وصفها بـ «عاصمة النور والظلام»، حيث أراد أن يسند دراسته المسرح فتعلم الفلسفة التي جذبته جذباً، ثم أدخلته مرحلة «القلق الروحي، والتشكك في ما ليس من حياة الفكر والواقع»، وتفاقم قلقه الوجودي عندما درس نظريات سغموند فرويدأ وبدأ في طرح الأسئلة حول كل شيء في حياته. أثرُ الأمَّهات أما المحور الثالث فكان المرأة، وهنا حكى أولاً عن تجربة له على أيام مراهقته مع أمه، التي كانت «شأنها شأن السيدات التركيات في ذلك الوقت تعتقد في عالم الجن والعفاريت»، وأن منهم من يتقمص أجسام البشر، وهم الأسياد، ولذلك كانت أمه تقيم حفلات الزار في البيت. وكان طليمات الطفل يرى أمه وقد احاطت بها مجموعة من الطبالين، وهي راحت تدور وتدور حول نفسها، حتى تتصلب وتبدأ في الكلام بنبر رجولي، وتطلب الأشياء، ويستجاب لها. شاهد طليمات ذلك، متعجباً كيف تحقق أمه للجني هذه الرغبات بنفس راضية، في حين تقف معاكسة لطلباته هو ابنها. وحدث ذات يوم وقد أقبل عيد الأضحى أن رفضت الأم شراء ملابس العيد لطفلها؛ فما كان منه إلا أن تقمص دورها في حلقة الزار، وأخذ يزبد ويرغي، وزاد على ذلك أن صار يغني، فأقبلت إليه أمه واحتضنته وقد حسبت أن جنياً لا يجيد الغناء قد تلبسه، واستجابت لجميع طلباته. وقال طليمات: إن واقعة الزار هذه أثبتت له أن المرء يمكن أن يستحوذ على الناس وعواطفهم عندما يشاركهم أحوالهم النفسية والمزاجية، وقال إنه اتخذ من تلك التجربة منهجاً للتعامل مع الناس في حياته المهنية، خاصة في مشروع تأسيس معهد مسرحي، وإقامة دورات المسرح المدرسي، وصناعة جمهور لـ «أبو الفنون». حكى طليمات أيضاً عن المرأة المعشوقة، بمنظور مثالي، وفلسفته في هذا الجانب لخصها قائلاً: «كان لي أكثر من بنت جيران واحدة، أهيم بالحسن وأرحم القبح فأخصه بعطفي».
مشاركة :