مطران إيبارشية المنيا: المسيحية ديانة المعنى

  • 5/11/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كتب الأنبا بطرس فهيم مطران إيبارشية المنيا مقالا بعنوان "المسيحية ديانة المعنى".قال الرب لبطرس لما أراد غسل رجليه وبطرس لم يُرِد: "أنت الآن لا تفهم ما أنا أعمل، ولكنك ستفهمه فيما بعد" (يوحنا 13: 7)، وتكرر هذا الموقف أكثر من مرة فقال مثلا مرة لابني زبدي: "أنتما لا تعلمان ما تطلبان" (مر 10: 38). وقال فيلبس الشماس لخصي ملكة الحبشة: "أتفهم ما تقرأ؟" (أع 8: 30). وتكرار هذا السؤال أكثر من مرة، وبأكثر من شكل، وفي أكثر من موضع، يجعلنا نتساءل ما هو المعنى وما قيمته في المسيحية.المسيحية ديانة المعنى، لأنها تهتم بالمعنى الذي يعطيه الإنسان لما يقول ولما يعمل، أكثر من القول والعمل نفسه. فليس المهم نوعية أو كمية العمل، ولا نوعية أو كمية القول، بل المعنى فيما يقول ووراء ما يعمل. ولهذا قال السيد المسيح إن الله لا يضيع أجر من سقاكم كأس ماء بارد لأنكم للمسيح (مرقس 9: 41). فما هي قيمة كأس الماء البارد؟ تقريبا لا شيء، ولكنها للعطشان تساوي حياة، ومن هنا تأخذ معناها وتقديرها لدي الله، ولدى من يقدمها ومن يستقبلها، ومعناها يزداد لأنها قدمت لمن ينتمون للمسيح. فليس المهم أن تعمل أعمالا كبيرة أو عظيمة، بل المهم أن تعمل ما تعمل مهما كان صغيرا أو بسيطا بقلب وبحب عظيم، هكذا كانت تقول القديسة تريزا. فكم من عمل يعتبره الناس وضيعا ولكنه عند من يقوم به ذا معنى عظيم، فخذ مثلا عامل النظافة قد يعد الناس عمله بائسا وحقيرا، إذ أنه من الأعمال الخطيرة وغير النظيفة، وغير المريحة ولا المربحة. فيحتقر الناس مثل هذه النوعية من العمل، ولا يقبل عليها أحد، إذ يعتبرونا مهينة. ولكن من يقبل العمل فيها معطيا لهذا العمل معنى، فيعتبره مشاركة في تنظيف وتجميل الشوارع والساحات والأماكن العامة. فيجعلها بيئة صحية، أكثر جمالا وراحة وسلامة، لكل المواطنين، فإن عامل النظافة، في الحقيقة، يؤدي عملا جليلا للمجتمع كله، لا يقل عن قيمة وفائدة وعظمة عن أي عمل آخر، مما يعتز ويفتخر به الناس ويقبلون عليه بكل فرح وفخر. فإن تغيب عامل النظافة يشعر الجميع بغيابه، ويزداد الخطر على الجميع من عدم النظافة والروائح الكريهة وخطر انتشار الأمراض والأوبئة، ويغيب معه الجمال والصحة. ولهذا فالمعنى الذي يعطيه عامل النظافة والمجتمع كله، لمثل هذا العمل البسيط، يجعل منه قيمة ورسالة، لا تقل قيمة وأهمية عن غيره من الأعمال التي يعتبرها الناس عظيمة وجليلة. ليس المهم أن تكون خطيبا بليغا أو واعظا مفوها، بل المهم أن يكون في كلامك، مهما كانت بساطته، روح وإيمان وقناعة. قال بطرس ويوحنا للمخلع على باب الهيكل الجميل، حين طَلَبَ منهم صدقة، ليس لنا ذهب ولا فضة، ولكن نعطيك مما لنا، وقالا له: "أنظر إلينا" وكانا يقصدان أن يتفرس ويتأمل في قوة إيمانهما بالمسيح القائم، التي تشع من قلوبهم ومن عيونهم وتتلألأ على وجوههم، لكي يستطيع أن يصدق ما يقولانه له، وقالا له: "باسم يسوع المسيح قم وامش" وأمسكاه بيده وأقاماه فقام يركض ويرقص ودخل الهيكل مسبحا الله (أعمال 3: 4 – 9). إنه المعنى الذي وجده المخلع في قلوبهم وعيونهم وكلامهم ما جعله يثق ويقوم وينطلق ويتغلب على عجزه. ليس هناك في تاريخ البشرية ما هو أكثر عبثية من الصليب، بكل ما يعبر عنه من خطيئة وشر وغدر وخيانة وعنف وحقد وألم ومهانة وموت... الخ. ولكن السيد المسيح إذ قبله بكل الحب والتسليم لمشيئة الآب والرغبة في إتمام سر فداء البشر، حوله من لعنة إلى بركة وخلاص وفداء وحياة، حتى صار الصليب رمز وعلامة الحب الأعظم في كل التاريخ البشري. إنه المعنى الذي أعطاه المسيح لهذه الخبرة المؤلمة والمأساوية التي اجتازها بكل الألم، وعبرها بكل الحب، فحولها لنبع خلاص أبدي لكل البشر على مر التاريخ. فما أحوجنا في عالم اليوم، الذي غابت فيه الكثير من المعاني ومن القيم ومن المبادئ، التي توجه الحياة وتعطيها معناها وقيمتها. ما أحوجنا إلى المعنى الذي يغير مذاق وطعم كل شيء، ويخفف وطأة وعبئ كل ما نعاني من صعوبات ومآسي. إنه المعنى الذي يحتاجه عالم اليوم أكثر من أي شيء آخر، كما قال بول ريكور: "صحيح أن الناس يحتاجون إلى العدل والمحبة، ولكن قد يكونوا أشد حاجة إلى المعنى". صحيح أنه توجد في حياتنا أمور كثيرة لها معنى، مثل الصداقة والحب والعمل والتضحية والوفاء... الخ. ولكن هناك أمور أكثر لا معنى لها مثل المرض، وألم الأبرياء، والأوبئة، صراع القوة، والتنافس غير الشريف بين القوى العظمي الذي يروح ضحيته الأبرياء، العنف والشر والموت الغير مبرر... الخ. فإن لم يستطع الإنسان أن يجد معنى يبرر وجوده وكفاحه اليومي وآلامه وصبره، فإنه غالبا ما يُحبط ويفشل وييأس، ويتخبط في دوامات ومتاهات من الأسئلة التي لا يجد لها إجابة، وأحيانا يقضي على حياته. هناك معاني جزئية بسيطة قد يعيش عليها ولها ومنها وفيها ومن خلالها الكثيرون من البشر البسطاء وكأنهم يتلهون بحياتهم، هي المعاني التي بالكاد تكفي لتبرر وجودهم وتضحياتهم اليومية، فهناك من يعيش ويكد ويتعب ليضمن حياة كريمة لبيته، ومن يريد أن يضمن مستقبل أولاده، أو من يسعى لموقع متميز في عمله... وهكذا. ولكن هناك المعنى الأعمق والأعظم الذي يعطي الحياة كامل قيمتها ومعناها، ويجعل الحياة كلها تدور في فلكه، وفي سبيل أن نحيا هذا المعنى تهون كل الصعاب والمشكلات والتحديات. هذا المعنى هو الذي يعطيه إيماننا المسيحي، وارتباطنا بالمسيح، وتلمذتنا للإنجيل، وبنوتنا لله، لكل حياتنا بما تحمل إلينا، وما فيها من ظروف وأحداث. فيصير المسيحي رجل المعني وشاهد للمعنى ونبي المعنى. هذا المعنى الذي نجده في إجابات الله، في المسيح يسوع، على كل تساؤلات حياتنا الجوهرية والمصيرية. ففي صليب وموت يسوع نجد الرد على كل عبث الحياة، وفي قيامته المجيدة نجد المعنى والقيمة لكل رجاءات وآمال البشرية وكمالها. ففي سره الفصحي يفك يسوع شفرة الحياة، ولغز الوجود والألم والموت، ويعكس ضوءً سماويا على كل واقع البشرية الأرضي، بما فيه من أمور لا تُفهم ولا تُقبل، أحيانا كثيرة. ومن اتحد بالمسيح في موته وقيامته يجد معنى وقيمة لكل ما يعيش مهما كانت صعوبته. والروح القدس يشرح ويفسر لنا الواقع ويبين لنا الحق كله (يوحنا 14: 26 و16: 13)، حقيقة الله وحقيقة الحياة. فنفهما ونحبها ونحياها بكل رجاء وثبات "ناظرين إلى مبدئ إيماننا ومكمله يسوع" (عبر 12: 2). فكلما عظم المعنى في حياتنا، كلما ازددنا تمسكا بالحياة وكبر حماسنا لأن نعيشها بغنى وكثافة، وكلما كبرت قيمة ما نعيش لأجله لكما كان حماسنا للحياة وفرحنا بها وفيها عظيما، وكلما قلت مخاوفنا وهانت تضحياتنا في الحياة ومن أجل الحياة ومن أجل من نعيش معهم ولأجلهم. هذا المعنى وهذه القيمة العظيمة التي تُعطي كل المعنى لحياتنا وكفاحنا ومماتنا، هي الحب الكامل لله وللناس الذين أرسلنا الله إليهم لنعيش معهم ونحبهم مثل أنفسنا حبا بهم وحبا به. إن نموذج يسوع المسيح ومثاله، وقوة ونعمة ونور كلمته المقدسة وروحه القدوس، وفاعلية أسراره المقدسة، وصلاة وشفاعة مريم العذراء وأمثلة ونماذج القديسين تضيء لنا الطريق، وتعطينا الحماس والقوة لنحيا مع المسيح، من أجل الله والناس الذين يدعونا الله لمحبتهم وخدمتهم، حبا به وعلى مثاله. فإن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، وإن عشنا وإن متنا فللرب نحن (رومية 14: فهل هناك أجمل من حياة، تُقْبَل من يد الله كنعمة، وتُعاش بمعونته كبركة وهبة، وتُقدم له كذبيحة محبة تفوح منها رائحة المسيح الذكية؟ (2 كور 2: 15). فتعطي حياتنا كل المعنى وكل القيمة التي تضفي على حياتنا جمالها وفرحها وغناها وبركتها، فتكون أنشودة فرح ولحن حب لله وللناس، وطريقا للفرح والسلام الدائم في الأبدية السعيدة التي خلقنا لها في المسيح يسوع في المجد.

مشاركة :