رمضان.. فرصة لصلة الأرحام

  • 6/27/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إن مما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جمع فيه من طيب الخصال الكثير بقليلٍ من الكلام، ومنه ما جاء في الأثر عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-، قال: أَمَرَنِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ، أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِى، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَداً شَيْئاً، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ (وفي رواية: فإنها كنز من كنوز الجنة) رواه الإمام أحمد، وهو في الصحيحة. ولا شك أن هذا الحديث جمع من أبواب الحكمة ومجالب السعاده في الدنيا قبل الآخرة الكثير، مما من شأنه إصلاح حياة العبد وإيصاله إلى رضى الله عنه إن هو اعتنى بما جاء فيه. فكيف تكون رقة قلب المرء إن هو ربطه بحب المساكين والتباسط معهم، وكيف تكون طمأنينته إن هو لم يحزن على ما لم ينل نصيبا منه مما رزق به غيره، وأي عزة نفس هي لمن لا يسأل الناس ولا يلجأ إلا لرب الناس، وأي صلاح للفرد والمجتمع إذا جاهد كلٌ نفسه في قول الحق وإن صَعُب، وهذا لأن المؤمن لا يخاف إلا ملامة الله له في تقصيره عن إصلاح أمره وأمر مجتمعه، وفي جملة هذه الأمور لا ننسى نصيبنا من ذكر الله، فكان بقولنا وامتثالنا لـلا حول ولا قوة إلا بالله استعانة لنا على قضاء أمور دنيانا وتحصيلاً لكنوز تنتظرنا في الجنة. وأما ما نقف عنده في هذا الحديث وما نتوسع فيه فهو صلة الرحم، وما أجملها من صفة نسعى لصقلها في هذا الشهر المبارك. إن صلة الرحم جانب عظيم من الجوانب الاجتماعية التي اعتنى بها الإسلام أيما عناية، تحقيقا للوشاجة المتينة التي يجب أن تربط الناس، لردم هوة التباعد، وطرد مغبة التنائي والتدابر، فالمسلم أخو المسلم، يعطيه إذا احتاج، ويؤنسه إذا استوحش، ويواسيه إذا اغتم، ويعوده إذا مرض، ويعضده إذا عجز. ولهذه الأهمية البالغة، كانت صلة الرحم من أعظم المرتكزات التي بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجلها. قال -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِىُّ فقال: وَبِأَىِّ شَىْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِى بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ مسلم. وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان فقال: صلة الرحم، وسئل عن أبغض الأعمال إلى الله تعالى بعد الإشراك بالله فقال: قطيعة الرحم - صحيح الترغيب. بل إن صلة المرء لرحمه تصله بالله قبل أن تصله بالأهل، حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الرحم شُجنة من الرحمن (قرابة مشتبكة كاشتباك عروق الشجر)، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته - البخاري. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَهْوَ لَكِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ - متفق عليه. وإن مما يوقع الهيبة لهذه الفضيلة في القلب أن يعلم المرء أن من تركها فقد حاد عن طريق دخول الجنة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ مسلم. وإن صلة الرحم لتصل إلى باقي العمل فتجلب أو تمنع قبوله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم أحمد وهو في صحيح الترغيب. ولا يكون هذا في الدنيا فحسب، بل ان الرحم لتأتي في الآخرة، فتشهد لصاحبها أو تشهد عليه وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: كل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها، تشهد له بصلة إن كان وصلها، وعليه بقطيعة إن كان قطعها صحيح الأدب المفرد. وإن في صلة الرحم لأثرا على صلاح أو طلاح دنيا العبد، فإن ثوابها وعقابها لا يؤجلان، بل هما من أسرع ما يقع، فمن بلي في أمر من أمور دنياه فليتفكر في صلة رحمه فقد تكون سببا في بلائه هذا . قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ليس شيء أُطِيع الله فيه أعجلَ ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجلَ عقاباً من البغي وقطيعة الرحم صحيح الجامع. وقال: من قطع رحما، أو حلف على يمين فاجرة، رأى وباله قبل أن يموت صحيح الجامع. وهي سبيل لتكثير الرزق، وطول العمر، سواء كان طولا معنويا بالبركة، أو حقيقيا على ما بينه العلماء؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أحب أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثره (وفي رواية: في أجله)، فليصل رحمه متفق عليه. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: صلة الرحم وحسن الجوار أو حسن الخلق، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار أحمد وهو في صحيح الترغيب. ويزاد على ذلك أن يزرع محبة الواصل في أهله. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن صلة الرحم محبة في الأهل، مَثْراة في المال، مَنسأَة في الأثر صحيح الجامع. وإن قطيعة الرحم لتوصد باب أكرم الأكرمين عن دعاء القاطع، فقد جاء في الأثر أن العقلاء كانوا لا يدعون الله إلا في مجلس ليس فيه قاطع رحم، مخافة أن ترد دعوتهم بسببه؟ يقول أبوهريرة -رضي الله عنه-: أُحرِّجُ على كلِّ قاطعِ رحمٍ لَمَا قام من عندنا. وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- جالسًا في حلقةٍ بعدَ الصبح، فقال: أُنْشِدُ الله قاطعَ رحمٍ لَمَا قام عنَّا، فإنّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا، وإنّ أبوابَ السماء مُرتَجَةٌ (مغلقة) دونَ قاطِع الرَّحم.. وأوصى عمر بن عبدالعزيز ميمون بن مهران فقال: ولا تُصافِ قاطع رحم، فإن الله -عز وجل- لعنه في آيتين من كتاب الله تبارك وتعالى.. لكل هذا، كانت صلة الرحم واجبة. قال القاضي عياض: لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة.. ولكن الصلة درجات، بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتِها بالكلام وبالسلام. وإذا كان أعلى أنواع الصلة يكون بالتفقد والزيارة البدنية الفعلية، فإنها تحصل أيضا بالتناصح، والإيثار، والانصاف، وبالبشاشة والوجه الطلق، وبالهدية، وبكف الأذى. قال الإمام النووي -رحمه الله-: وأما صلة الرحم، فهي الإحسان إلى الاقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك. ومن أعظم أنواع الصلة، أن تبادر إلى زيارة من لا يبادلك الزيارة، والإحسان إلى من لا يبادلك الإحسان، فإن قَصَّر هو في جانبك، فلا تضيع أنت حقه فيك. قال تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِيَ قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلّ الرماد الحار وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ معين عليهم مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ - مسلم. ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعتْ رحمه وصلها البخاري. ولا يستوي في الحكِم عبدانِ: واصلٌ وعبدٌ لأرحامِ القرابةِ قاطعُ كما جاء عن جبير بن مطعم أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول على المنبر: تعلموا أنسابكم، ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم، لأوزعه ذلك عن انتهاكه صحيح الأدب المفرد. يقول الشاعر: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمِّي لَمُختلفٌ جِدّا إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندهم قدحت لهم في كلِّ مكرمةٍ زندا وإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهُمْ وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا ومن أعظم الصلة -أيضا- تفقد أهل أبيه وأصحابه. فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّه، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ. فقال له أصحابهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ، صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ مسلم. وإن في صفاء نفوسنا في هذا الشهر الفضيل لفرصة للوقوف على حالنا مع صلتنا لأرحامنا، فإن كنا ممن من الله علينا بصلتنا لها حمدنا الله على ذلك وواضبنا عليها، وإن كنا غير ذلك تبنا إليه، وجعلنا من صلتنا لأرحامنا طريقا يصلنا إلى الله ورضاه، ونويناها عبادة خالصة لوجهه، وإن شقت علينا. شيء من منافع الصيام أولاً: رمضان مدرسة للاختبار، حيث يمسك الصائم عن الأكل والشرب والشهوة، وهذا اختبار من الله للعبد بصبره وبعبادته وتركه ما نهاه الله عنه لوجهه سبحانه، وتحمله الأوامر وقيامه بها، فرمضان اختبار للإيمان وللنية وللصبر، وبمعنى أعم اختبار لحقيقة إسلامه واستسلامه لله؛ لأن الحياة بالنسبة للمؤمن كلها اختبار، ولحظاتها مجاهدة بين نفسه الأمارة بالسوء وواعظ الله في قلب كل مؤمن، فمن وطّن نفسه على اختبار الصيام، وأدرك أسراره، وذاق لذة النجاح فيه عرف نتيجة الاختبار في باقي شؤون الحياة. ثانياً: رمضان يورث محبة الله في قلب المؤمن، فإنه إذا رأى كرم ربه وجزيل عطاياه في رمضان، زادت محبته سبحانه، والمحبة ركن في الإيمان وهي أساس الأعمال، فيقبل المؤمن على العمل محباً له متمسكاً به متقناً لأدائه، ففي رمضان يتكرم المولى بالمغفرة لمن صام ولمن قام وفطر صائماً، والحسنة تُضاعف فيه ما لا تتضاعف في غيره، واختص الله بأجر الصائم دون غيره، وما ذاك إلاّ محض فضل منه سبحانه وتعالى. ثالثاً: مجرد معرفة أن الصوم كتب على الأمم من قبلنا فهذا دليل على آثاره العظيمة وفوائده على الإيمان والإنسان والمجتمع، ويدل على ذلك أن الله لم يفرضه علينا وعلى أهل الكتاب من قبلنا فقط بل قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ليشمل جميع الأمم، وشيء بديهي أن أمراً يُفرض على تلك الأعداد الهائلة من الأمم فيه من الأسرار والحكم والفوائد ما يستحق ذلك التعظيم والوقوف. رابعاً : رمضان تربية للجود بجميع أنواعه: أ- جود المال: ففيه الحث على الصدقة وتفطير الصائمين والإنفاق وتعهد الأرامل والمحتاجين. ب- جود الوقت: ففيه نفع المسلمين والمشي في حاجاتهم والقيام على شؤونهم. ج- جود الذات: ففيه بذل الجاه عند الأغنياء وأصحاب اليسر ابتغاء الأجر من الله. د- الجود ببذل الأعمال الصالحة: فيفعل الصالحات، وينوع العبادة ما بين فرض ونفل وصلاة، وصدقة وقرآن وتفطير، وإمامة وأذان وقيام على حاجات الناس، وإنفاق وكلمة وخطبة وهكذا. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، أجود بالخير من الريح المرسلة، كما ثبت في الحديث الصحيح.

مشاركة :