الحكاية الشعبية البحرينية.. فسحة للروح ونزهة للعقل

  • 6/27/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أن تسنح لك مقادير الدهر يوما أن تُلقي بأشرعتك المُتكسرة على ضفة رصيف ميناء عتيق، لتلتقط بعضاً من أنفاسك المتلاحقة من هول الجريان وراء سراب من الوهم والضياع، لتصغي بشيء من الذهول والاستغراب إلى من يأتيك من حيث لا تدري، من يَهمُّ بالترويح عن نفسك المحبطة، ليسرّي عنها بحديثٍ كم تاقت نفسك الى الاستماع إليه عندما كنتَ في السنين الأولى لطفولةٍ شقية انقضت بأعجوبة لا تصدق، لتجد نفسك وفي غفلة منك انه قد مضى عليها خمسون عاما أو أكثر قليلا.. كانت تلك الحكايات الشعبية العجيبة التأليف والمسلية للروح المنهارة، التي أسمعها - يا لحظي العاثر - للمصادفة الأولى بعد هذا العمر الطويل، رُويتْ بعذوبة على مسامعنا في ندوة أقيمت في جمعية تاريخ وآثار البحرين من قبل الأستاذ يوسف النشابة في محاضرة له بعنوان: قصصٌ شعبيةٌ من البحرين. أعادت هذه الحكايات الى وجداننا شيئا من التوازن النفسي لحرماننا من الاستماع إليها عندما كنا فتياناً منذ اكثر من نصف قرن، لأنه لم يكن يوجد من يعي أهميتها في ما تتركه هذه القصص من خيال جموح، وراحة قلبية، وشعلة فكرية، وقيم الحب والجمال والخير. لم يُكثر الأستاذ يوسف النشابة خبراً، ولم يُطل حديثاً بشأن ماهية القصة الشعبية وفلسفتها واقتحامها من جوانبها الأكاديمية والدراسة النقدية، والتبحر في متاهاتها اللغوية والفكرية ودروبها الوعرة من حيث كينونتها وكيفية نشأتها المكانية والزمانية في وعينا الجمعي الشعبي في بيئتنا المتواضعة في سنوات الماضي الموسومة بالفقر والبساطة، بل طار بنا وبسرعة البرق - وهذا خير ما فعله - إلى آفاق القصة أو الحكاية الشعبية البحرينية الجميلة ليترك لنا الفسحة الرائعة للاستماع إلى نماذج منها زادت على عشرين حكاية شعبية، رواها لنا بأسلوب رشيق تارة بلغة عربية معدلة عن أصولها الشعبية المروية عنها، التي حسب اعتقاده ربما تكون صعبة على فهمها من بعض الحضور، وأخرى رواها لنا بأصلها الشعبي، بل رواها بلهجةِ المنطقة التي أنتجتها حسب ما ذكر لنا.. ومنها قصة الدويجج والنخجخج، وتعني بالعربية الفصحى (الديك وحبات الحمص) التي رُويت على لسان أهل منطقة رأس الرمان كما يقال بحسب المصادر التي تناقلتها. قبل الدخول في أحداث هذه الحكاية الطريفة، والإفادة المرجوة من مغزاها والحكمة من روايتها جيلا بعد جيل، تجدر الإشارة إلى ان راوي هذه الحكايات الأستاذ المحاضر يوسف النشابة، ربما أراد بهذا الأسلوب من سرد محاضرته هو شحذ الخيال واستخلاص الأفكار من الحكايات نفسها مباشرة، التي اعتقد انها بنفسها تعطي المدلولات والحكمة التي من أجلها أُلفتْ أو رُويت هذه الحكايات، بدلا من ذكر ذلك على غرار المحاضرات الأكاديمية المعتادة التي عادة ما تتناول مثل هذه المواضيع بالنقد والتحليل والغوص في بنيتها وتفكيكها، والتي قد يعتقد البعض أن هذا الأسلوب قد أضعف المحاضرة، الا انه بالنسبة لي على الأقل كما ذكرت في المقدمة، كانت فرصة عظيمة للترويح النفسي واستنباط المعاني والخيالات المُسربلة في ثنايا الأساطير والميثولوجيا التي لا غنى لأي مبدع او أديب عن تشربها والانغماس في ألغازها ورموزها العجيبة من خلال الإنصات إليها مروية مباشرة.. فالحكاية الآنفة الذكر لمن لم يسمعها قبلا، كانت عبارة عن: (كان يا ما كان) وهذه لازمة مهمة حسب المحاضر للابتداء برواية القصة الشعبية، كان هناك فتى لديه كيسٌ صغير به حبات من النخج (كلمة عامية تعني الحمص) فلما تعب من المشي، أراد أن يستريح، فسّلم الكيس إلى أحد المنازل لحفظه أمانة لديهم حين الرجوع لاسترداده، ولما عاد بعد فترة، سأل عن كيسه، فتأسفت له صاحبة الدار بأنه وفي غفلة منهم، التهم ديكهم حبات الحمص، وهم الآن لا يستطيعون فعل أي شيء تجاه هذه الحادثة العرضية الخارجة عن إرادتهم. هنا أخذ الفتى بالصياح والعويل، إما الدويجج وإما النخجج (إما الديك وإما الحمص) حاولت السيدة واستماتت في إقناعه بأنه مستحيل مقايضة ديك ثمين بحبات زهيدة من الحمص، إلا انه وأمام صراخه الشديد طوال ساعات عديدة وهو يردد إما الدويجج وإما النخجج، رضخت السيدة لتهديده، ودرءاً لتصرفه الأهوج، فأعطته ديكها العزيز والغالي الثمن، وبعدما أخذ الديك، استمر في مشيه حتى تعب، وأراد أن يستريح، وهنا سلم الديك إلى منزل آخر. وعندما رجع ذكرت له صاحبة المنزل ان الديك قد غافلهم واندس بين الحطب ليختنق هناك ويموت، وهنا أخذ بالصراخ والفضيحة كالمرة الأولى.. إما الدويجج وإما الحطبطب، وباليأس نفسه الذي أصاب السيدة الأولى، أعطته الحطب.. واستمر في مشيه وبالطريقة عينها على هذا المنوال، ليسلمه إلى منزل آخر وليتكسر حطبه من دون قصد تحت أقدام بقرتهم الحلوب، ويطالب أهل ذاك المنزل المساكين بمقايضة حطبه بالبقرة صائحا، إما الحطبطب وإما البقرقر. وهكذا تتم مناولة هذه الحكاية الجميلة وبطريقة سردها العفوية الرائعة بلهجتها الشعبية، ليصل صاحبنا في نهاية المطاف الى منزل فيه عُرس، واستطاع أن يحصل على عروسهم الجميلة لتعويضه بها عن بقرته التي أودعها منزل تلك العروس والتي اضطر أهلها الى ذبحها للمدعوين الى حفل العرس لشح اللحوم في الاسواق وهو يصيح فيهم هائجا مولولاً.. إما البقرقر وإما العرسرس. ولطمعه وجشعه للحصول على ثروات أغلى وأنفس يودع عروسه الفاتنة لدى منزل آخر بنفس النهج الذي اعتاد عليه.. وصادف إن كان لديهم شخص ميت ومتوفى للتو، وفي غفلة منهم هربت العروس الجميلة مع أحد الشبان، ولما رجع لتسلمها، ذكروا له عن انشغالهم بالميت وغسله وتكفينه حيث لا يدرون أين اختفت العروس وهربت، وهنا أخذ يصرخ ويزعق.. إما الموتوت وإما العرسرس، ليعطوه جثة الميت الهامدة، بدلا من عروسه الهاربة، ويمضي أخيرا بالميت فرحاً بما غنِمَ. لتنتهي الحكاية وليترك لنا الأستاذ يوسف النشابة نستخلص منها العبر والحكم، التي أعتقد أن ابسطها، ربما أن هناك من يعتقد أنه يستطيع بأعذار واهية وملتوية، وبتوريط الآخرين بأفعال ساذجة، ابتزازهم والاستيلاء على ما لديهم بما يتوهم بامتلاكه لملكات من الدهاء وعلو الأصوات، وأحيانا بالتهديد والتخويف والاعتداء.. ولكن لابد من أن يفضح في النهاية سوء أمره.

مشاركة :