قال الدكتور على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، إن الناس يختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافا بينا، ويظهر ذلك في استقبال المحن والمنح، والنعم والنقم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى، والصحة والمرض، وغير ذلك من أحوال الإنسان في هذه الدنيا. وأوضح أن أقوم الناس طريقة من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، فلا تضره فتنة ولا تزعزعه شبهة ولا تغلبه شهوة، فتجده وقد فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسرا وعسرا، ثم أقام موازنة، فوجد أن الدهر يومان: ذو أمن وذو خطر، والعيش عيشان، ذو صفو وذو كدر، فضبط نفسه في الحالين: فلم ييأس على ما فات، ولم يفرح بما هو آت: فلا تجده ذا خيلاء عند غناء، ولا حزنا عند فقره، يقلق من الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبدا، والسر في ذلك الإيمان الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه فاطمأن فلا تؤثر فيه الفتن ولا تختلف نفسه باختلاف أحواله إلا بالترقي من مقام إلى مقام.وأشار إلى أن بنى هذا الصنف من الناس نفسه على عدة عوامل، منها:-التقرب إلى الله عز وجل:بما يجب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى الفرائض التي فرضها عليهم، ثم إن في النوافل لمجالا واسعا عظيما لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله، وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء.- محاسبتها محاسبة دقيقة:فالنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، فلا بد لها من محاسبة، والكل لا يشك أننا إلى الله راجعون، محاسبون على الصغير والكبير، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ومن حاسب نفسه علم عيوبها وزلاتها ومواطن الضعف فيها، فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها، فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق، ألا وهو ميزان الشرع.- تعلم القدر المفروض من العلم المقرب إلى الله تعالى والعمل به واتباع العلماء الحاملين لميراث النبوة:وهذا لأن العبادة بلا علم توقع في سوء فهم للدين بالتشدد الذي يصرف الناس عن دين الله أو بالتساهل الذي يفك عرى الدين، وما انتشرت الأفكار الغريبة عن مجتمعنا في هذا العصر إلا عن جهل غير المتخصصين غالبا.- الوقوف على بعض أخبار العلماء والصالحين من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس، وتدفع النفس الضعيفة إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة، وتبعث فيها روح التأسي بذوي التضحيات في سبيل العلم لتسمو إلى أعلى الدرجات.- المداومة على العمل وإن قل:لأن المداومة على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها تثبيت وترويض للنفس البشرية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه، وصرف لمكائد الشيطان ونوازعه، فإذا عود المرء نفسه على الفضائل انقادت له، وإذا تهاون فأقدم مرة وأحجم مرة كان إلى النكوص أقرب، والشيطان إذا رآك مداوما على طاعة الله عز وجل ملك ورفضك، وإن رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك، فداوم على الطاعات، فإن الله من فضله وكرمه أنه إذا جاء ما يصرفك عن أداء الطاعات من عجز ومرض وفتنة منح كالأجر كما كنت صحيحا.- مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله عز وجل:فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وضعف وعيوب فتصلحها وتهذبها، فهم زينة الرخاء وعدة البلاء يذكرونك إن نسيت، ويرشدونك إن جهلت، يأخذون بيدك إن ضعفت، مرآة لك ولأعمالك، إن افتقرت أغنوك، وإن دعوا الله لن ينسوك: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم مسلم.- الدعاء فهو أهم عامل في بناء النفس، إذ هو العبادة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من صفات عباد الرحمن المذكورة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].- تدبر كتاب الله الذي يهدي القلوب والعقول الحائرة {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وكذا الوقوف عند أسماء الله الحسنى وصفاته العلا: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] فإن وقفة واحدة مع أسماء الله وصفاته الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم التمثل بها، تعلقا وتخلقا وتحققا، كل ذلك يبني النفس بناء لا يتزلزل ولا يحيد.واختتم حديثه داعيا: « اللهم ابن أنفسنا بناء ينزع منها كل قبيح، ويغرس مكانه كل مليح، ويبصرنا بكل ما هو صحيح صريح، إنك نعم المولى ونعم النصير».
مشاركة :