بينما يتحدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجميع بتدخله السافر في ليبيا، وبينما تقصف طائراته المسيرة الأهداف المدنية والعسكرية والبوابات الأمنية وحتى الشاحنات المحملة بالدواء والعسل والدجاج والبيض والخضار، وتقتل النساء والأطفال والمسنين في البلد المنهوب والمسلوب والمغلوب على أمره، تبدو جامعة الدول العربية وقد سدّت أذنا بالطين وأخرى بالعجين، وأغمضت عينيها عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة في حق الدولة والمجتمع، وكأنها غير معنية بما يجري في الأراضي الليبية، ولا ترى فيه ما يثير الانتباه، أو يستحق الاهتمام، أو يستوجب الرد، أو يتطلب موقفا جادّا لمواجهة العدوان. والسبب طبعا أن الجامعة لا تزال منذ تأسيسها قبل 75 عاما، تدور في حلقة مفرغة، وتحكمها الانقسامات، وتؤثر فيها مراكز النفوذ الدولي والإقليمي، وهي تعيش أسوأ مراحل تاريخها منذ أن أصبحت مكلفة بفتح أبواب المنطقة العربية لشرعنة التدخلات الأجنبية، لنجني في كل مرة نتائج كارثية، كما هو الحال في ليبيا. علينا أن نعترف أننا أمام وضع عربي رديء ومؤلم وغير قابل للإصلاح، وأن الحديث عن موقف موحّد لم يعد متاحا، خصوصا منذ أن دخل الإسلام السياسي، بشقيه الشيعي والسني، على الخط ليستهدف بالأساس كل طرح عروبي، وصرنا نرى عرب التبعية لإيران وعرب التبعية لتركيا، قبل أن نرى عرب الدفاع عن العروبة، وبتنا نجد من يدعم الدول الإقليمية الطامعة في الأمة العربية والمتآمرة عليها سواء بالإعلان المباشر عن ذلك، أو بالصمت المريب الذي لا يخرج عن دائرة الانتهازية لأسباب سياسية أو اقتصادية، وفي حالات عدة من أجل عدم استفزاز الإسلاميين في هذا البلد أو ذاك، أو فقط لتسجيل موقف بهدف التباين عن الآخرين. القول بوجود دور مهم للجامعة العربية لم يعد يجد من يصدقه، وقصة وحدة الصف والموقف أصبحت من الماضي البعيد فمشروع الإسلام السياسي أطاح بما تبقى من أمل في هذا الاتجاه قد يرى البعض أن عجز الجامعة هو من عجز النظام العربي ككل وهذا صحيح، ولكن مستوى العجز سيزداد كلما اعتقد العرب أن عليهم انتظار لحظة الاجتماع من أجل التوافق، وهي اللحظة التي لن تتحقق في المدى المنظور على الأقل، وخاصة في ظل الدور الذي تقوم به دولة قطر للمزيد من تمزيق الصف العربي اعتمادا على سياستي الترهيب كونها تمسك بمقاليد الجماعات الإرهابية، والترغيب لكونها تمتلك المال المخصص لشراء المواقف والولاءات، وهي التي تقدم نفسها اليوم كحليف لأردوغان، وكصديق لإيران، وكراع للإخوان، وداعم للميليشيات حيثما وُجدت، وكعضو في الجامعة لا يخفي عداءه وتآمره على دول أخرى، لا لشيء لأنها تقاوم مخططه الفوضوي. بالعودة قليلا إلى الوراء، يمكن أن نتوقف عند العام 2011 عندما وقعت الجامعة العربية تحت سيطرة المندفعين إلى مشروع ما سمي بالربيع العربي، ولعل عمرو موسى، الأمين العام آنذاك، يستطيع أن يفتح ملفاته ليكشف عن مجريات الأحداث في تلك المرحلة، وخاصة عن الدور القطري في شراء الذمم وممارسة الضغوط والاستقواء بالأميركان والأوروبيين للدفع نحو المزيد من الفوضى ضمن مخطط كان هدفه الأساس تمكين قوى الإسلام السياسي من الحكم في المنطقة، على أن يتم الانفراد بالدول العربية واحدة تلو الأخرى، ودون استثناء، لضمها إلى قطع الدومينو المطاح بها. ما حدث في العامين 2011 و2012، لا تزال الأمة العربية تدفع ثمنه إلى اليوم، خصوصا عندما قررت الجامعة تعليق عضويتي دولتين مهمتين هما ليبيا وسوريا، تمهيدا لتدويل الأحداث التي شهدتاها، قبل أن تتحولا إلى ساحتين لحروب بالوكالة، وإرهاب إسلاموي، وسلطة ميليشيات، وتدخل دولي وإقليمي، وفوق ذلك إلى منطلقين أساسيين لتهديد الأمن القومي العربي. ولعل المثير في ذلك أن القرارين تم اتخاذهما دون إجماع، ما يعني أنهما كان باطلين بالأساس، وهو ما يشير إلى أن الجامعة كانت، في الظاهر، جزءا من حالة الحمّى التي ضربت المنطقة، وفي الأصل فاعلا أساسيا في المخطط الذي تم إعداده بإحكام للوصول بالأوضاع إلى ما آلت إليه الآن. كما لم يعد خافيا أن قطر قامت بدور رئيس في بلورة تلك المواقف، ولعل قاعة جلسات الجامعة تتذكر تهديد وزير الخارجية القطري، آنذاك، حمد بن جاسم لوزير خارجية الجزائر مراد مدلسي بأن الدور قادم على بلاده، بسبب رفضه قرار تجميد عضوية سوريا في نوفمبر 2011. كان عمرو موسى الموعود من الدوحة برئاسة مصر أول من دشن فترة الفوضى قبل أن يحل محله في منتصف مايو 2011 نبيل العربي الذي كان يتحرك بروح قطرية، تدعمت لديه في تلك المرحلة بقراءات صهره وشريكه الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل الذي كان بمثابة الصديق المقرب من أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، ورغم أن مياها كثيرة جرت منذ تلك الفترة، إلا أن الجامعة لا تزال تثبت فشلها سواء في إصلاح ما سبق أن أفسدته، أو في تطهير نفسها من الأطراف المتآمرة من داخلها، وعلى رأسها النظام القطري، ما يدعو وبإلحاح إلى أن تيأس الأنظمة كما يئست الشعوب من أي دور إيجابي قد تقوم به، و أن تجتمع الدول العربية ذات التوجهات السياسية الواحدة أو المتقاربة على الأقل، وخاصة تلك المعادية للإرهاب والفوضى والخيانات والأطماع الخارجية، لتتصدى للمخاطر المحدقة بأمنها وسلامة أراضيها ومجتمعاتها، وأن تشكل في ما بينها كيانا غير قابل للاختراق يمكن أن يكون قاطرة لجرّ دول أخرى إليه، ليس على أساس الانتماء للعروبة فقط، وإنما الانتماء إلى رؤية سياسية موحدة والاجتماع حول مواقف وأهداف غير قابلة للمزايدات أو المساومات، بهدف تحصين نفسها وحماية مصيرها من المؤامرات التي يبدو أنها تتضخم وتتزايد مع الأيام. عجز الجامعة هو من عجز النظام العربي ككل وهذا صحيح، ولكن مستوى العجز سيزداد كلما اعتقد العرب أن عليهم انتظار لحظة الاجتماع من أجل التوافق إن نتائج الصمت على ما يدور في ليبيا اليوم من تدخل تركي سافر، لن تختلف عن نتائج الصمت على التدخل الإيراني في العراق بعد العام 2003، وقد يجد العرب أنفسهم أمام أجزاء من وطنهم الكبير قد تم احتلالها، فالقضية ليست بسيطة، والمؤامرة تتجاوز قدرة البعض على استيعابها حاليا، والنظام التركي لا يخفي أطماعه التوسعية وفق خارطة نفوذ أسلافه العثمانيين، كما أن النظام الإيراني لا يخفي تطلعه إلى السيطرة على مساحات شاسعة من بلاد العرب سيرا على خطى أسلافه الصفويين، وهما معا يلعبان على وتر الطائفية، ويركبان صهوة الإسلام السياسي لشق المجتمعات بأوهام الصحوة والخلافة، ويجعلان من الهوس الديني والطائفي وشعارات التحدي والمواجهة أدوات لتجييش المزيد من الأتباع. كما أن الإبقاء على الاعتراف بحكومة فايز السراج المعزولة، التي لا تحظى بشرعية دستورية أو شعبية في بلادها، وتم إسقاطها عنوة على المشهد الليبي من قبل مراكز الضغط الدولي بغاية إعادة رسكلة جماعة الإخوان على إثر هزيمتها في انتخابات 2014، يعتبر دعما للتدخل التركي وشرعنة لقتل الليبيين على أيدي المرتزقة والإرهابيين المدفوعين لتنفيذ أجندات أردوغان الإسلامية بتمويل قطري. إن الحديث عن أمة عربية واحدة يُعتبر، من الناحية السياسية على الأقل، خدعة آن الأوان لأن تطوى صفحاتها، والقول بوجود دور مهم للجامعة العربية لم يعد يجد من يصدقه، وقصة وحدة الصف والموقف أصبحت من الماضي البعيد، فمشروع الإسلام السياسي أطاح بما تبقى من أمل في هذا الاتجاه، وانحياز بعض الدول للموقف القطري أو رفضها إدانتها، يعني أنها تقف في صفه، أما الصمت في مواجهة العدوان التركي فهو آخر مسمار يدق منذ أشهر في نعش جامعة الدول العربية.
مشاركة :