وها أنت يا أعرابي ذرعت فضاءات الشعر، تتقلب بين الشعراء لتتأمل منازلهم المشتعلة وفراديس عوالمهم المشبُوبة. وقد أزمعت من أنين عواطفهم أن تنادي: أما آن لهمسات العاشقين، أجيبي؟ فإمّا اللقاءُ وإمّا الفراق.. تُعاين - يوم لا حياد - ما عزم عليه أمر أقوام من العشاق الشعراء، المصبوبين والمصوبين، وأي قصيدة أثرها المنحُوت قد خَلّفَ على ضلعين؟ وأيُّها اشتَقّت شريانًا أو شريانين، وأيُّ قصائد مُدججة بكل أنواع الفتك الناسف احتزمت، فلا نجوم ذرَتْ ولا أقمار إلا وتنادت تهُزّ عرائكها مذعنة: إما هذه وإلا فلا.. ألم يكفك يا أعرابي ما لقيت وسمعت من حديث غزلهم؟ وقد علّق كل واحد منهم قصيدته على أستار رموش خفرته، يدفعَهُ حُسْنهَا الفتّاك ويودي به إشعال واشتعاله في بيوت من الشِّعر! ألم يكفك هذا لتمضي معهم، وتعبُر وتسبر دربًا آخرَ فجُّوهُ موصلًا إلى أحد المجرات التي ذكروها لك، تبحث عن فيض مرجعياتهم والهوية والعبثية واللاجدوى وطرائق تجاريبهم منقطعة الكُنه، من بين قصائد تناولت قضايا ومواضيع ووجهات متنوعة تلك التي ذكرها الأساتذة النقاد (عبدالله سفر، فايزة الحربي، ميساء الخواجا). ولعمري إنما هي، قصائد غذُّوهَا بلفائف التبر ليعمروا بها موائد المكتبات السعودية والعربية بعد أن استبكوا لها عناوين لا حصر لها تَعمُر حُرِّية. واليوم يا أعرابي تُطل من جديد في هذا العدد، ناقلًا أخبار الروائيين والقاصين السعوديين، تصف مواطنهم المحقولة المحرضة كمواسم الخصب وقوس الربيع على تذكية مناخات التبديع، وتصف لذائد فضاءاتهم المشهدنة فيما رَووهُ وقَصّوهُ .. وتُطل تنقل في جعبتك تساؤلات الدكتورة «زينب الخضيري» حول ما عدته أدب الإنسان في مراحله وتحولاته ومشاعره تجاه الحياة والناس، أين حضور الرواية السعودية في كل أنواعها ومدارسها، من الرواية التاريخية حتى رواية استشراف المستقبل، وما هو دورها الفعلي؟ وأين استشراف المستقبل في الرواية؟ محيلة إلى القول: إن معظم مواضيع الرواية السعودية تدور حول ثلاثي لا يختلف؛ علماء الدين، والرجل، والمرأة والمطالبة بالاختلاف في الطرح والبحث عن مفاتيح مختلفة بعيداً عن الخيانة والخلاص والآلام، التي تفيض بها الأعمال الروائية. وإضافة على إطلالتها من ملف الشعر الأسبق تتجلى بجدارة إطلالتها الخلابة في ملف الرواية الناقدة الدكتورة «ميساء خواجا» تحمل عنوانًا كبيرًا «الخطاب الذكوري في الرواية النسائية السعودية»، متصدية ببسولية لما وصفته «المخيال الجمعي» أو الجدل الضمني والمعلن مع الهيمنة الذكورية ومع المفاهيم السائدة التي تدور حول الأنوثة، مؤكدة في الوقت نفسه أن النص الروائي النسائي يمكن أن يكشف - شأنه في ذلك شأن أي خطاب جمالي - عن أنساق ثقافية مضمرة اشتغلت فيها الكاتبة على ما له علاقة بالتهميش والتغييب والقمع والمسكوت عنه. وفي مجال الحركة القصصية يا أعرابي، حدثنا عن ما أورد مقال أحد أبرز أساطينها وناشريها ومن البّارين بها القاص والناشر «محمد ربيع الغامدي»، ماذا قال في مراحلها قبل أن يختتم قائلًا: لقد شبّت القصة السعودية عن الطوق، وهي الآن أمتن لغة، وأعمق رهانًا وأكثر تكثيفًا، بعد أن عانت قليلاً من مستوى قضاياها، إذ تيسرت النوافذ التي تطل منها (القصة السعودية) على الكون وعلى الإنسان وعلى قضاياه الكبرى. الروائية والكاتبة د. زينب الخضيري الرواية السعودية بين المكاشفة والمهادنة والصراع النص الروائي نص ثقافي مدهش، من خلال فنياته وجمالياته نستطيع استيضاح الفكرة التي تأسست من أجلها، وهو عبارة عن كبسولة تختزل للقارئ حياة متعددة لبشر وشخصيات مختلفة في فترة زمنية محددة يتخللها قضايا وإشكالات تخص الماضي والحاضر، وقد تستقري المستقبل لذلك المجتمع الذي تدور أحداثها فيه.. فالرواية، لها قدرة على وصف المشهد الإنساني والتعبير عن المكان والإحساس بالزمن، ولأن الرواية على حد تعبير بول ريكور «كينونة زمنية يسجل من خلالها الكاتب زمنه النفسي في الزمن الكوني» كان المستقبل هو زمن الانتظار والاحتمال وعالم الغيبيات التي تقلق الإنسان، وهو زمن الأمل واليأس في الوقت نفسه، وهو زمن مهم لبناء توقعات واستشراف القادم من المستقبل. والسؤال الذي لطالما شغلني هو أين حضور الرواية السعودية في كل أنواعها ومدارسها، من الرواية التاريخية حتى رواية استشراف المستقبل، وما هو دورها الفعلي؟ وأين استشراف المستقبل في الرواية؟ فالرواية لدينا توقفت عند الاستشراف الذي يقتصر على «ثنائية السعادة والتعاسة» كما يقول الكاتب محمد ولد سالم. المتتبع لتاريخ الأدب السعودي والرواية بالذات يلحظ أنها جاءت من رحم تحول سياسي واجتماعي، «التحول السياسي هو تكوين الدولة السعودية في الثلاثينيات من القرن العشرين، والاجتماعي فهو فكرة الوحدة الوطنية وتطبيقاتها والسعي إلى الاندماج الاجتماعي في سياق سياسي واحد» (د. حسن النعمي). والتحولات لم تقتصر على مواكبة التحولات التاريخية والسياسية لظهور المملكة، بل صاحبها تغيرات على مستوى البناء الفني، ونوعية الموضوعات وكيفية تقديمها وجرأه طرحها؛ حيث تعكس الرواية في أي مجتمع خباياه، وتكتب تاريخه وتصور ثقافته، فالرواية ابنة التجارب الاجتماعية وقد عرفها (عبد الفتاح عثمان) بأنها: «ما هي إلا حكاية لها صياغة وحبكة فنية، بداخلها أحداث وأبطال أو شخوص ومتن، تقدم بطريقة فيها سبك وحبك، ويلعب منطق السببية فيها دورًا مهمًا للوصول إلى خاتمة». إن العلاقة ما بين المؤلف والقارئ، الإنتاج والتلقي، في الرواية تقع ضمن مساحة تبنيها التجارب والسلوكيات الواقعية ثم تثريها عوالم الممكن، ففي الرواية نحن نتشوق لمعرفة ماذا سيحصل لنا، ولكننا لا نستطيع أن نعرف ذلك إلاَّ من خلال ما وقع في الواقع، فعوالم الرواية تخلصنا من إكراهات الواقع وأنظمته المملة وتخرج بنا إلى حيز التغيير والدهشة وعدم الرتابة، إنها بمثابة عملية هروب من القلق الذي نكابده من الحياة إلى عوالم أكثر انفتاحاً وسهولة، فهي تصف الحياة التي نريدها وتعكس أفكارنا اللطيفة والجامحة، الشريرة والخيرة، وكل ما يخلو من تعقيدات الواقع الملزمين بتطبيق أنظمته. إذاً نحن نتشبث بالرواية ونؤكد أهميتها في محاولة يائسة للإمساك بهذا العالم الفوضوي التنظيم، ولكن الزمن الفعلي يفشل في التقاطاته لكل جوانب حياتنا ويومياتنا بؤسنا، وشقاؤنا، فرحنا العذب، وسعادتنا القلقة، وهذا النص التخيلي لا يمكن أن يكون مستقلاً إلاَّ إذا كان له بناؤه الداخلي وأنظمته وقوانينه واستشرافاته المستقبلية؛ وأي عمل روائي له سياقات ورموز وصور ودلالات، لذلك نحتاج إلى العلم والتكنولوجيا ومجتمع مجرب من أجل أن نتوقف عن ثنائية السعادة والتعاسة إلى كتابة روايات تتحدث عن شكل الحياة بعد سنوات مديدة، ويرى ميلان كونديرا :»أن الرواية هي الشكل الأكبر من النثر الذي يفحص فيه المؤلف حتى النهاية، وعبر ذوات تجريبية (شخصيات) بعض تيمات الوجود الكبرى». تاريخ الرواية السعودية بدأ مع رواية (التوأمان 1930م) لعبد القدوس الأنصاري، كانت التجربة الأولى لكنها ليست الأفضل، تلاها روايات شبيهة مع اختلاف العمق لكن رواية (فكرة 1948م) لأحمد السباعي، بدت مختلفة جداً ومواكبة لسياقات المجتمع تلك الفترة. بعدها جاءت رواية (البعث 1948) لمحمد علي مغربي ثم رواية (الانتقام الطبيعي 1954) لمحمد الجوهري. كانت الروايات في تلك الفترة تستند على قضايا المجتمع لكن رواية (ثمن التضحية 1959م) لحامد دمنهوري، هي الرواية التي أسست لمرحلة جديدة لتطور الرواية، ثم ظهرت تجربتان روائيتان هما؛ (ثقوب في رداء الليل 1961/ سفينة الموتى 1969م) لإبراهيم الناصر. وفي فترة التسعينات كان المشهد الأدبي مزدهرًا، والرواية هي البطل الحقيقي، فكان حضور (تركي الحمد وغازي القصيبي، عبده خال، يوسف المحيميد، محمد حسن علوان، عبد الحفيظ الشمري، رجاء عالم) وغيرهم بمنزلة الطوفان الذي اجتاح المشهد الأدبي، حيث الخلفيات المتنوعة التي جاءت منها الرواية، وشكّل هذا المناخ الأدبي الشاعري حضورًا كثيفًا متنوعًا للرواية، ولأن «الأدب فن الزمان وليس المكان» كما يقول «انريكي اندرسون أمبرت» فالروائي السعودي جل قضاياه كانت من رحم واقعه الاجتماعي وحيزه المكاني وتراثه أو تاريخه المحلي. ويرى الأديب هاني نقشبندي «أن معظم مواضيع الرواية السعودية تدور حول ثلاثي لا يختلف؛ علماء الدين، والرجل، والمرأة. وقال: لا بأس أن تكون تلك الأضلاع الثلاثة عماد رواياتنا، لكنه يطالب بالاختلاف في الطرح والبحث عن مفاتيح مختلفة بعيداً عن الخيانة والخلاص والآلام، التي تفيض بها الأعمال الروائية». وهذا ما ألمسه الآن في روايات الشباب الجدد والتي أصبحت متنوعة المواضيع، فالأدب بشكل عام يساعدنا في تقبل حياتنا وواقعنا، فهو يفتح الباب للتعامل مع الآخرين واكتشافهم، ويعطيك غنى بلا حدود، ويزودنا بأحاسيس لا تعوض تجعل العالم الواقعي له معنى آخر. لا يمكن أن نتحدث عن الأدب دون الحديث عن «النقد»، فحضوره يشكل الذراع الثاني لتطور المشهد الثقافي والأدبي بشكل عام، وفي الرواية بشكل خاص، ويرى صادق الموسوي «أن ثمة معايير ونظمًا وموازين تجتمع لتكوّن عملية تقيميّة تسمى النقد، وهذه العملية لا تقترن بأي مؤثرات أو تأثيرات ولا تقتصر على شخصية الناقد، إنما هي نظرات متقابلة تضع نصاً ما وتبين محاسنه وعيوبه وتطرح طرق معالجتها مؤيدة ذلك بالأدلة وما يؤكدها»، فالرواية تحتاج إلى فضاء ناقد وصادق بعيد عن المحسوبيات والحشد الشللي، فلا نتطور إلا بالنقد المدروس والبناء، فالروائي يجب أن يكون منفتحًا على النقد ويتقبل كل ما يُطرح عنه، وعلى الناقد أن يبتعد عن المجاملات، فوظيفة النقد هو البحث عن مميزات العمل الأدبي وعيوبه، فمعايير النقد تساوي بين النصوص وتنظر لها من ناحية الكيف لا الكم. وهذا لا يمنع أن الرواية السعودية حظيت بدراسات كثيرة لكنها - من وجهة نظري - غير كافية. إذ إن الرواية تزدهر بالنقد، والكتابة الروائية عملية شاقة لكنها ممتعة، وأن يكون الإنسان روائيًا هي مهمة تستلزم أن تكون موسوعيًا ذا تجربة ولديك شيء تقوله كل مرة، فالرواية ليست أدباً نخبوياً يقرأه أولئك المهتمون بالانتصارات والنجاحات الوهمية، بل هي أدب الإنسان في كل مراحله وتحولاته ومشاعره تجاه الحياة والناس، هي فكر ومعرفة بالعالم المادي والاجتماعي الذي نسكنه شأنه شأن الفلسفة والعلوم الإنسانية، فدانتي وسيرفانتس علمانا عن الوضع الإنساني أكثر مما علمنا كبار علماء النفس والاجتماع. الناقد الروائي د. عبدالله الطيب: نظرة في التجربة الروائية السعودية الرواية لديها القدرة على تصوير التغيرات الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى التغيرات البيئية، وباستطاعة الرواية أيضاً كشف خبايا المجتمعات، ورصد تاريخها ببعديه الثقافي والاجتماعي. قطعت الرواية السعودية شوطاً طويلا ًفي التسعين عاماً الماضية منذ أول رواية مطبوعة، وهي رواية «التوأمان» 1930م للراحل عبدالقدوس الأنصاري. شهدت تلك البدايات محاولات فردية، شكّلت النواة للرواية السعودية. ومن الروّاد أيضاً الأديب أحمد السباعي وروايته «فكرة» 1948 في تلك الحقبة، كان التركيز على المضمون وعلى التعليم هاجساً لدى الكتّاب، على حساب تقنيات السرد وجمالياته. لكن الرواية السعودية لم تلبث أن تخطت تلك المرحلة، وبدأت بعدها مرحلة المنافسة حول إثبات الوجود، وتميزت الروايات في تلك المرحلة بالتجريب في تقنيات السرد. نلمس ذلك في رواية إبراهيم الناصر «ثقب في رداء الليل» 1961، وشهدت هذه المرحلة كذلك ظهور الصوت النسائي من خلال روايات الرائدات أمثال سميرة خاشقجي وأمل شطا. كان للطفرة الاقتصادية التي مرت بها السعودية في الثمانينات الميلادية تأثير على الرواية السعودية التي حاولت أن تواكب التغييرات الكثيرة التي مر بها المجتمع. من أبرز روايات المرحلة هي رواية غازي القصيبي، «شقة الحرية»، هذه الرواية عبدت الطريق لظهور روايات جريئة ترصد بكثافة وشفافية كافة جوانب المجتمع. ومن معالم هذه الحقبة رواية «الوسمية» للأديب «عبدالعزيز مشري»، هذه الرواية تفردت في اللغة وطريقة رسم وصياغة الأحداث ومن حيث احتفائها في البيئة. وفي مرحلة التسعينات برز تركي الحمد بثلاثيته الشهيرة وعبده خال، ثم في مرحلة ما بعد التسعينات والألفية الجديدة كان لها تأثير على الرواية التي رصدت نتائج حرب الخليج، ومفرزات الطفرة الاقتصادية. تضاعف الإنتاج الروائي في المملكة بشكل كبير وواضح حتى زاد عدد الروايات الصادرة في عام واحد إلى (100 رواية) عام 2011. وبناءً على ما أصاب المجتمع من تغييرات كبيرة وملموسة وبظهور الفردية بشكل واضح - في مجتمع كان يعرف بأنه مغلق - تغيرت موضوعات الرواية السعودية وأصبحت أكثر جرأة في طرح مواضيع جديدة شائكة، تناولت أمورًا مثل: الجنس والسياسة والدين، وتطرقت إلى مواضيع مجتمعية مثل: الطلاق والزواج وحرية المرأة وقضايا الهوية والعنصرية، مشكلة شهادة على واقع المجتمع الجديد. كما كانت بعض الروايات جريئة في مناهضة العنصرية والمذهبية والقبلية وكبت الحريات، فلم يعد الروائي بحاجة إلى اللجوء إلى الرمزية نظراً إلى الوعي المتنامي في المجتمع الذي تخلى طواعية عن انغلاقه. من المشتهر أن الرواية السعودية عرفت بجنوحها نحو السيرة الذاتية، وهذا أحد أسباب ثرائها وتميزها، خاصة حين يبدع الكاتب في استلهام سيرته ونسج أحداثها بشكل مثير، وساهم دخول كتاب أكاديميين وشعراء في حقل الرواية في الارتقاء بجمالياتها الفنية ولغتها الأدبية مع المحافظة على الجرأة في المواضيع، وتراوحت الأعمال الروائية ما بين متبعة للمنهج التقليدي وبين تلك التي جنحت نحو التجديد الجزئي والتام في بنيتها. ومما ساهم في انتشار فن الرواية هو التطور المطّرد في مجالات التعليم والصحافة والإعلام وتوفر دور النشر المحلية والعربية، إضافة إلى توفر طبقة كبيرة من المثقفين السعوديين الذين انجذبوا إلى فن الرواية كي يعبّروا بأقلامهم عن هموم المواطن السعودي وأحلامه ومستقبله. يمكن القول إن الرواية السعودية تسير في الطريق الصحيح لأنها حقيقة تتلمس احتياجات القارئ وتعطشه لكل ما يستطيع أن يمده بمكنونات الذاكرة المكانية، باعتبار أن السعودية كبلد لديها مخزون كبير، والرواية هي عالم مفتوح يستوعب كل هذه الأمور. من السهل على المتابع للحركة الروائية السعودية ملاحظة الطفرة الهائلة في الكم المطبوع منها، لذا فإن هذا النشاط - الهائل والجميل - يحتاج لمواكبة نقدية تماثله في الحركة وتقوّم مساره. غير أن النقد الروائي لم يرتق إلى المستوى المطلوب ولم يؤد المهمة التي يتوقعها منه القارئ والكاتب على حد سواء! لذلك ظهرت روايات متواضعة في اللغة وتقنيات السرد، مع سطحية في التعامل مع صياغة الأحداث، وربما شاب مواضيعها التكرار في الوقت ذاته، مع تواضع في التجريب، مقارنة بنظيراتها في الدول العربية. ومن الملاحظ أن قلة من الكتاب نضجت تجربتهم كروائيين فأصبح لديهم مشروع روائي، من أولئك عبدالرحمن منيف وعبده خال ومحمد حسن علوان. المأمول من الرواية في هذه الفترة هو أن تواكب مجريات العصر وتتناول مواضيع الساعة فتكون شاهدة على عصرها في المستقبل. الناقدة الكاتبة د. ميساء خواجا الخطاب الذكوري في الرواية النسائية السعودية شكلت المرأة وصورتها المثالية كما تراها الثقافة وتحددها مجالاً خصبًا وغنيًا للباحثين في النقد النسوي والنقد الثقافي، على اعتبار أن المخيال الجمعي قد عمد إلى تكوين صور متعددة لها فيها ما هو سلبي وآخر إيجابي. والتراث الثقافي والأدبي يحمل أنساقًا مضمرة ساهمت في تكوين تلك الصور وفي إعادة إنتاجها مرة بعد مرة بشكل واعٍ أحيانًا وغير واعٍ في أحيان أخرى، فبدت تلك الصور وكأنها نماذج بدهية وثابتة للمرأة كما هي أو كما تراها الثقافة بصورة أدق... يمكن اعتبار الرواية النسائية مجالاً ثريًا لمحاولة الكشف عن الأنساق الثقافية المهيمنة في ثقافة ما، حيث تلجأ الكتابة النسائية عند عدد من الكاتبات إلى مناوشة المسكوت عنه، وإلى إقامة جدل ضمني أو معلن مع الهيمنة الذكورية ومفاهيم الأنوثة السائدة. ويجدر القول هنا إن محددات قبول الإبداع من منظور نسوي لا يعني أن دراسة صور المرأة في النصوص يعني قبولها نسويًا، ذلك أن المسألة تتعلق بآليات التمثيل وليس بآليات التصوير فقط. ومن هنا دعت بعض الناقدات إلى التركيز على الفجوات والغياب والمسكوت عنه واللاممثل في الخطاب، أي أن النص الروائي النسائي يمكن أن يكشف - شأنه في ذلك شأن أي خطاب جمالي - عن أنساق ثقافية مضمرة اشتغلت فيها الكاتبة على ما له علاقة بالتهميش والتغييب والقمع والمسكوت عنه. من هنا يستدعي العلني في النص المضمر من خارج النص ويجعله يستوطن النص عبر جمل ثقافية متداولة يمكن اكتشافها عبر القراءة وإحالتها إلى سياقها الثقافي والمجتمعي المرتبط بالتقاليد والأعراف والتربية وتصنيفات الذكورة والأنوثة في المجتمع. تحمل الرواية النسائية - كما سبقت الإشارة - أنساقًا مضمرة، ومن هنا فإن دراسة عدد من الروايات النسائية في السعودية كانت تهدف في المقام الأول إلى دراسة النص باعتباره حادثة ثقافية تولد جملاً ثقافية ومضمرات نسقية. فإذا كانت الثقافة الذكورية تقدم الأنوثة بوصفها قيمة خرساء أو كائن غير لغوي، فما هو دور الكتابة النسائية في نقض ذلك التصور حين تمتلك الكاتبة زمام الكتابة وتنشئ خطابها الخاص لتصبح ذاتًا فاعلة لا موضوعًا يحكى عنه؟ هل تماهت الكاتبات مع الأدوار المعطاة لهن أم عملن على محاولة نقض المفاهيم الثقافية وخلخلتها؟ لعل الالتفات إلى الخطاب الذكوري في الرواية النسائية يمكن أن يشكل أحد مداخل الإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها، فتفكيك الخطاب والبحث عن المضمر أو المعلن فيه قد يكشف عن الرؤية المحركة لعدد من الروائيات في المملكة العربية السعودية وعن نصوصهن باعتبارها قيمة ثقافية وإبداعية في الوقت نفسه. وقد ظهر الخطاب الذكوري في الروايات موضوع القراءة مباشرًا وظاهرًا وضمنيًا غير مباشر. وبرز هذا الخطاب في أعمالهن بصورة مباشرة عبر صوت الرجل الذي يمثل الخطاب الذكوري بصورة واضحة في أقواله وأفعاله، وجاء هذا الصوت متقاربًا - رغم تعدد صور الشخصيات ونماذجها - وذلك في تمثيله للأنساق الثقافية الضمنية التي تحصر المرأة في جسدها، وبالتالي تجعلها مناط شرف الرجل وعاره في الوقت نفسه، كما تراها مصدرًا للمتعة ووسيلة لخدمة الرجل وتحقيق راحته. إضافة إلى ذلك تتعامل معها باعتبارها ناقصة عقل وعاطفية لا تقدر على تحمل المسؤولية. ويلاحظ أن عددًا من الروائيات قد حرص على إبراز ازدواجية الرجل وتناقضه بين القول والفعل لا سيما الرجل المثقف، كما حرصن على تناول قضايا نحو تعدد الزوجات وزواج القاصرات والاغتصاب والخيانة التي تمارسها الشخصيات الذكورية لفضح مدى هيمنة الخطاب الذكوري على تلك الشخصيات وعلى الثقافة وعلى المجتمع الذي يسانده. لقد كان صوت الساردة، عبر توظيف ضمير المتكلم في السرد، وسيلة أخرى لكشف الخطاب الذكوري، وقد يبدو السرد موضوعيًا محايدًا في بعض الأعمال، لكن التقاط التفاصيل وسرد بعض العادات والممارسات يحيل ضمنًا إلى النسق الذكوري الذي يكرس هيمنة الرجل على المرأة، وتراتبية العلاقة بينهما. إضافة إلى ذلك كان صوت بعض البطلات رافدًا لصوت الساردة في تقديم صوت مناقض للخطاب الذكوري ومواجهة صريحة معه. برز الخطاب الذكوري في الروايات موضع الدراسة بصورة غير مباشرة، ولعل هذا النمط من الخطاب هو ما كان يعكس مدى هيمنة المفاهيم الذكورية التي تحاول حصار المرأة وتكرس دونيتها. ولعل الجانب الأبرز في هذا الخطاب المستتر ما قدمته الروائيات من نماذج لنساء تماهين مع الثقافة وصرن حارسات لقيمها ومدافعات عنها، وهو ما يمكن تسميته بـ«النموذج الذكوري للمرأة». وقد برز هذا الأمر في مسألة تفضيل الذكورة على الأنوثة، وتفضيل إنجاب الولد والإعلاء من شأنه، فترى المرأة أن كيانها لا يتحقق إلا بوجود رجل. كان نموذج «الأم» هو النموذج الأبرز لتمثيل الخطاب الذكوري، بل إنها تصبح أكثر شراسة من الرجل في الدفاع عن قيم الثقافة وأكثر تماهيًا معها، وبالتالي تحمل مسؤولية كبرى في تمرير مفاهيمها وتعميقها واستمراريتها عبر الأجيال. ويسند هذا النموذج نموذج آخر هو ما يمكن تسميته بـ «المرأة ضد المرأة» حيث تعمل المرأة في هذا النموذج على قمع جنسها وتنضوي تمامًا تحت مفاهيم الذكورة وقيمها المهيمنة. لعل المفارقة الكبرى والنتيجة الأبرز كانت في تسلل الخطاب الذكوري إلى لاوعي عدد من الروائيات اللاتي سعين إلى نقض ذلك الخطاب، فانعكس ذلك في أعمالهن بصورة ضمنية، وكانت كتابتهن مضادة للنسق المهيمن من جهة ومكرسة له من جهة أخرى. وبذلك تماهت الكاتبة أحيانًا مع الخطاب الذكوري الذي تحاول نقضه أو التصدي له وتعريته ليبدو أكثر سيطرة وعمقًا حتى عند كاتبات واعيات لحيل الثقافة ومفاهيمها المهيمنة فأعدن إنتاجه عبر بطلاتهن بصورة واعية أو غير واعية. القاص محمد ربيع الغامدي: في الحركة القصصية السعودية الخُطاطة السردية واحده عند القاص السعودي وعند غيره من كتاب القصة في أي مكان من العالم، فالقصة السعودية هي وجه آخر للقصة العربية أو العالمية، تنمو معها وتتأثر بما يؤثر فيها وتعني بما يعنيها، فالمسألة مسألة اتصالات وتواصل، يتسع التحديث عادة باتساع تلك الاتصالات وبفاعلية ما ينشأ عنها من تواصل وما يعتري القصة من تمكين في كل حقبة. كانت الصحافة - على محدوديتها - معترك اتصال وتواصل خلال حقبة الرواد، وكان لنفر منهم ثقافة عابرة للحدود «العطار وحوحو والعواد والحجازي والسباعي والآشي ..» هيأت ثقافتهم تلك، بيئة صالحة للقصة لكنهم كانوا أكثر إخلاصًا لمسؤوليات البلاغة منها إلى مسؤوليات الفن القصصي. ثم توسعت دائرة الاتصال والتواصل عقب توسع الصحافة وظهور وسائل جديدة مثل الإذاعة والتلفزيون وأخص الإذاعة بالذكر، فقد كانت سوقًا غنية للأدب بكل أجناسه ومن بينها القصة القصيرة. فظهر جيل جديد من كتاب القصة اقترب أكثر من التكثيف وحمى رهانات القصة من أن تغرق في بحور المحسنّات اللفظية «أبو الفرج والناصر والجفري، وبوقس، وسباعي عثمان وغيرهم». دخل الأدب السعودي (ومنه القصة القصيرة) عالمًا جديدًا بظهور الأندية الأدبية، وجمعيات الثقافة والفنون، وأندية القصة، هذه الواحات الخضراء مكنت الأديب من التواصل الأهم عن طريق الأمسيات والمحاضرات والمجلات الأدبية المتخصصة ثم عن طريق الطباعة المجانية للمؤلف، هذه الحالة قد حمّلت القاص السعودي المزيد من المسؤولية الإبداعية مما دفع به لتبني سياسات أكثر حداثة في بناء منتجه القصصي «الشقحاء، الدوسري، الزهراني، المشري، مريم الغامدي وغيرهم». جاءت بعد ذلك حقبة «الإنترنت» التي جعلت لكل حي فرصته في التعبير فتدافع كتاب القصة مع غيرهم من المتدافعين إلى رحاب «الإنترنت» الواسعة، واستطاعت الشبكة العنكبوتية أن تسد خلل الأندية وتحتضن كل الذين تكسرت رماحهم على أسوار الأندية الأدبية، فأخرجت كُتابًا فاقوا جيل الأندية، والأجيال السابقة له بما قرؤوا من قصص مختلفة المشارب، وما كتبوا من قصص على الخطاطة نفسها ولكن بوعي مختلف وبمسؤوليات كونية أشمل «منتدى جسد، موقع القصة العربية للمليحان، ملتقى القصة القصيرة لهاني ومريم». لقد شبّت القصة السعودية عن الطوق وهي الآن أمتن لغةً، وأعمق رهانًا وأكثر تكثيفًا، ولربما عانت قليلاً من مستوى قضاياها لكن هذه المعاناة لن تدوم خاصة وقد تيسرت النوافذ التي نطل منها على الكون وعلى الإنسان وعلى قضاياه الكبرى. أنا لست في موقف الراصد التاريخي فهذه لها أهلها، ولكني في موقع المستشرف للغد الذي أوشك أن أراه محتفيًا بالقصة وكتابها، ولكني أقترح لذلك أن تهتم الجهات المعنية بتوفير بيئات جديدة للقصة القصيرة تكون خارج أسوار الأندية الأدبية دونما إخلال بتلك الأندية، فهي المنصة الكبرى للأدب، ويمكن للأنترنت أن يلبي تلك الحاجة شريطة أن يكون ذلك تحت سمع النقاد والمهتمين وتحت بصرهم، وأن تكون قنواته منفتحة على الأندية وعلى سائر المؤسسات الثقافية، كما أقترح العديد من الجوائز لأفضل قصة ولأفضل مجموعة وتوسيع دائرة جائزة الكتاب السعودي (القائمة حاليًا) لتمتد إلى القصة القصيرة.
مشاركة :