قد نشهد تحولاً في علاقات القوى العالمية، ومن الواضح أن بكين تنتهز فرصة التطورات الحالية من أجل تعزيز نفوذها خصوصاً في منطقة بحر الصين الجنوبي، حيث تظهر درجة متزايدة من الخطوات الرامية الى مضايقة الولايات المتحدة والكثير من الدول المجاورة، كما تشدد بقوة على مطالبها الإقليمية في ذلك الجزء من العالم. فعلت القيادة الصينية ما بوسعها من أجل ضمان انعقاد كونغرس الشعب (البرلمان) في هذه السنة، ومن المقرر أن يجتمع حوالي 3000 مندوب في العاصمة الصينية بكين في أواخر شهر مايو الجاري، وقد جاء الكثير منهم من أماكن بعيدة مثل شنغهاي وسيشوان والتيبت ومنغوليا، وسيسيرون في ساحة تيانانمين قبل التوجه الى قاعة البرلمان الذي شيد بناء على أوامر من مؤسس الدولة الصينية العصرية ماو تسي تونغ. وطوال أكثر من عشرين عاماً كان الحزب الشيوعي الصيني يعقد اجتماعاته في مطلع شهر مارس وقد حرص على تنفيذ هذا التقليد الرئيس الحالي شي جين بينغ الذي يحكم البلاد بقبضة حديدية، وجدير بالذكر أن النواب لا يبحثون الكثير من القضايا في اجتماع البرلمان وهم يكتفون بالتصفيق فقط. وتحرص القيادة الصينية على انعقاد ذلك المؤتمر لإعطاء صورة عن الاستقرار في ظل انتشار وباء كورونا المستجد، كما أن إعلان الرئيس الصيني عن موعد اجتماع البرلمان في 22 مايو يوجه رسالة محددة تفيد بأن أزمة كورونا قد انتهت في الصين، وكانت الحكومة فرضت أنظمة مشددة طوال أسابيع على دخول بكين من أجل منع انتشار الوباء بصورة مفاجئة. وقررت بكين عدم السماح بدخول الزوار من الخارج وحتى السفارات التي تعد 163 سفارة في بكين لا يسمح لها باستقبال ضيوف قبل منتصف شهر مايو الحالي، كما أن الصين تطبق سلسلة من القواعد الادارية تقضي بأن يمضي القادم من المناطق الريفية الى العاصمة بكين فترة عزل منزلي لثلاثة أسابيع. وقد بدا لبعض الوقت وكأن وباء كورونا سيعيد الصين عشرات السنين الى الوراء، أما الآن فإن الرئيس الأميركي ترامب هو الذي يبدو في وضع صعب بعد أن فشلت بلاده في السيطرة على الوباء. وعلى سبيل المثال فقد بلغ عدد المصابين بالفيروس في الولايات المتحدة أخيراً أكثر من 1.2 مليون نسمة بينما وصل العدد في الصين الى أكثر من 83 ألف شخص فقط، بحسب معلومات صدرت عن جامعة جونز هوبكنز. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل نشهد تحولاً في علاقات القوى العالمية؟ من الواضح أن بكين تنتهز فرصة التطورات الحالية من أجل تعزيز نفوذها وخاصة في منطقة بحر الصين الجنوبي، حيث تظهر درجة متزايدة من الخطوات الرامية الى مضايقة الولايات المتحدة والكثير من الدول المجاورة كما تشدد بقوة على مطالبها الاقليمية في ذلك الجزء من العالم. وجهة النظر الألمانية ويقول تقرير سري صدر عن وزارة الدفاع الألمانية حول التطورات السياسية الحالية إن البحرية الأميركية "تفترض قيام البحرية الصينية– ولو بصورة مؤقتة– باستخدام غياب الوجود الأميركي المتمثل في حاملات الطائرات بسبب وباء كورونا في المحيط الهادئ من أجل زيادة الضغوط العسكرية بصورة متعمدة على دول المنطقة كلها"، ومن الواضح أن التقرير يشير الى حاملة الطائرات تيودور روزفلت التي "تعرضت لانتشار الوباء الذي أصاب حوالي ألف من بحارتها". وثمة حقيقة جلية وهي أن الصين تمكنت من التحول الى قوة عظمى– ليس على الصعيد الاقتصادي فقط– بل على صعيد جيوسياسي أيضاً وذلك خلال فترة رئاسة ترامب، وتجدر الاشارة الى أن ترامب كان قد وعد أثناء حملاته الانتخابية بأن "يضع الصين في مكانها"، وبعد وصوله الى البيت الأبيض قرر تعيين الاقتصادي بيتر نافارو ضمن فريق مستشاريه للتجارة، وكان نافارو قام بتأليف كتاب بعنوان "الموت بيد الصين" حذر فيه من الصين وهي أكثر دول العالم سكاناً ستصبح بعد وقت قصير الدولة الأقوى على الصعيد الاقتصادي وعندها ستتحول الى "قاتل فعلي". وتشكل تلك الخطوة تغيراً جذرياً لأنه منذ الزيارة المشهورة التي قام بها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون الى الصين في شهر فبراير من عام 1972 حاول كل رئيس أميركي إقامة علاقات مثمرة مع بكين، ولكن ترامب اختار المواجهة كما دعا الشركات الأميركية الى الانسحاب من الصين وفرض على ذلك البلد سلسلة من التعرفات العقابية. ولكن الخوف من حدوث انهيار في سوق الأسهم دفع ترامب في النهاية الى انهاء المواجهة مع الصين إضافة الى إعجابه بالرئيس الصيني شي جين بينغ الذي تمكن من الاحتفاظ بمنصب الرئاسة مدى الحياة. واليوم، أشعل فيروس كورونا النزاع بين الدولتين كما أن الحزب الجمهوري في واشنطن يسعى الى إيجاد كبش فداء، وفي شهر فبراير الماضي وعندما كان عدد الاصابات قليلاً في الولايات المتحدة طرح السيناتور الجمهوري توم كوتن نظرية تقول إن فيروس كورونا ربما تم صنعه في مختبر في ووهان الصينية وهي نظرية تلقفتها بسرعة قناة ترامب التلفزيونية المفضلة "فوكس نيوز"، وتقوم وكالات استخبارات أميركية بالتحقيق فيها في الوقت الراهن، بحسب صحيفة نيويورك تايمز. بعد انتشار الوباء ومع انتشار وباء كورونا في الولايات المتحدة بدأ ترامب بالاشارة الى "الفيروس الصيني"، وفي نهاية شهر مارس الماضي حاول وزير الخارجية الأميركي من دون جدوى أن يجعل جملة "فيروس ووهان" تظهر في البيان الختامي لقمة (جي– 7)، وقال ترامب في الأسبوع الماضي انه يطلب تعويضات "جوهرية" من الصين لأن الوباء كان يمكن أن يتوقف في مصدره. وفي حقيقة الأمر، توجد أدلة على أن العالم كان يمكن أن يتفادى انتشار الوباء لولا أن النظام الصيني أسكت الأطباء الذين حذروا من تفشيه في وقت مبكر الى حد ما، ويقول نيكولاس بيرنز وهو مستشار السياسة الخارجية لدى المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية جو بايدن "إن نقص الانفتاح يثير القلق وقد أسهم في حرمان بقية دول العالم من فرصة مواجهة الفيروس". وقد سارعت الحكومة الصينية الى استغلال الفرصة التي نجمت عن الوباء وكانت الولايات المتحدة تغوص في أزمتها وتمكنت بكين من تأكيد سيادتها وهيمنتها، وقامت خلال شهري مارس وأبريل بإرسال فرق من الأطباء الى 16 دولة، كما وفرت في الوقت نفسه مواد إغاثة طبية الى 125 دولة و4 منظمات دولية، وفي الوقت الذي كانت إيطاليا تتوسل الى أوروبا من أجل تزويدها بالمعونات في بداية الأزمة قام الملياردير الصيني جاك ما بتزويد الاتحاد الأوروبي بمليوني كمامة واقية. ولكن النظام الصيني لم يقصر أعماله على الجوانب الخيرية فقط، وقد انتقل الى مربع الهجوم حيث قال المتحدث بإسم وزارة الخارجية الصينية في شهر مارس الماضي إن الجنود الأميركيين جلبوا وباء كورونا الى الصين وبعد ذلك تجاهلت بكين الاحتجاجات الحادة التي صدرت عن واشنطن. وفي حقيقة الأمر ليس لدى ترامب الكثير من الأوراق لاستخدامها ضد الصين، كما أن الحكومة في واشنطن ليست مشلولة فقط بسبب انتشار وباء كورونا وسوء ادارتها في سبل مكافحته بل إن صعود الصين أيضاً كان حصيلة عقلية استعمارية أميركية كانت تظن أنها لا تقهر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعمدت من هذا المنطلق الى شن حروب مكلفة وعقيمة. وتقول احدى الدراسات إن نشر قوات أميركية في الشرق الأوسط وآسيا فقط كلف الولايات المتحدة حوالي 6.4 تريليونات دولار اضافة الى مقتل أكثر من 7000 جندي أميركي منذ عام 2001. من جهة اخرى، كانت الصين تركز على رفع مستوى المعيشة للملايين من الصينيين وتمكنت من رفع دخل الفرد الصيني السنوي من 430 دولاراً في عام 1980 الى 10 آلاف دولار في الوقت الراهن. ولم يسبق في تاريخ البشرية أن حققت دولة ضخمة مثل هذه الزيادة الدراماتيكية في مستوى الرفاهية وخلال فترة قصيرة، أما في الولايات المتحدة فقد ارتفع دخل الفرد في الفترة ذاتها من 33.400 دولار الى 65.100 دولار فقط. واضافة الى ذلك فقد بدأت الولايات المتحدة في الوقت نفسه بالانسحاب من نظام تعاون دولي كانت هي من أوجدته في المقام الأول، وبعد الحرب العالمية الثانية تمكنت الولايات المتحدة من اقامة منظمة الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي وصندوق النقد الدولي، وقد كلفت تلك الجهود الكثير من الأموال للولايات المتحدة ولكنها ضمنت لواشنطن وضعية القوة العظمى. ومن جهة أخرى، سارع ترامب الى الانسحاب من اتفاقية باريس حول المناخ ومن الاتفاق النووي مع إيران كما قرر أخيراً التوقف عن دفع حصة بلاده في منظمة الصحة العالمية. التحرك الصيني اللافت في غضون ذلك، تمكنت الصين من التحرك ببراعة لملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة في المنظمات الدولية، وفي 17 يناير 2017 وبعد أيام قليلة من انتخاب دونالد ترامب رئيساً لأميركا توجه رئيس الدولة الصيني الى سويسرا لحضور المنتدى الاقتصادي الدولي في مدينة دافوس حيث ألقى كلمة دعا فيها الى ترسيخ العولمة، وبعد ثلاثة أيام فقط قال ترامب في أول خطاب له في واشنطن "من الآن فصاعداً ستحكم بلادنا رؤية جديدة هي أميركا أولاً"، وتؤكد هذه النظرة البون الشاسع في مفهوم السياسة في البلدين. *ماثياس غيبور ورالف نيوكيرتش
مشاركة :