أثارت قصيدة «كم شكيت من الدهر» جدلاً ملحوظاً ونقاشاً واسعاً بين القراء والمتابعين للمادة التي نشرها ملحق «الاتحاد الأسبوعي» في عدد الأسبوع الماضي، والتي تناولت سيرة وقصائد الشاعر الإماراتي الكبير محمد الكوس - رحمه الله - حيث جاء في سياق المادة المنشورة، أن القصيدة التي كتبها الراحل كانت من ضمن القصائد التي غنّاها المطرب الإماراتي المعروف ميحد حمد قبل ثلاثين عاماً. وكان مثار هذا الجدل نابعاً من احتمالية أن يكون كاتب القصيدة هو الشاعر الإماراتي المتميز «محمد بن سوقات» - رحمه الله - خصوصاً أن أحد الفيديوهات الموجودة في وسائل التواصل يذكر وعلى لسان المطرب ميحد حمد، أن القصيدة لـ«بن سوقات»، ما أدى إلى حدوث نوع من اللبس والتشويش حول الكاتب الأصلي للقصيدة الأمر الذي دفعنا إلى العمل على حلّ هذا الإشكال، وإزاحة غموضه، للوصول إلى الغاية المرجوّة، وهي منح الشعراء حقهم المعنوي والأدبي قبل أي شيء آخر، وكذلك لإيصال الحقيقة للقراء وكشف الملابسات المتعلقة بهذه القصيدة «الحائرة» التي أوردناه في مطلع هذا التحقيق، وصولاً لهدف أكبر مستقبلاً، وهو الاسترشاد بالوثائق المحققة قبل الاعتماد على وسائل التواصل التي نجد في أغلبها خلطاً قد يكون غير مقصودٍ بين القصائد التي كتبها كبار شعراء «النبط» في الإمارات، والتي يتم نسبتها لغير أصحابها، ربما بسبب النسيان أو الاستعجال أو تشابه الأسماء، وقد تظل هذه المعلومات الخاطئة متداولة بين الناس لسنوات طويلة دون توضيحها أو الانتباه لها، وقد تكون المصادفة وحدها هي مفتاح البحث والتحرّي عن أصل ومنبع هذه الأخطاء. وللتعرف أكثر على سبب الجدل الذي أثارته قصيدة «كم شكيت من الدهر» والإشكال المصاحب لها، التقينا الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي الذي أشار لنا بداية بأن مصدر الإشكال المتعلق بقصيدة «كم شكيت من الدهر» يعود إلى انتشار الأغنية التي أداها الفنان ميحد حمد وكثرة تداولها بين الناس، حيث يذكر ميحد في مطلع الأغنية أن القصيدة هي من كلمات الشاعر «محمد بن سوقات»، بينما الحقيقة - كما أكد المزروعي - أن القصيدة تعود للشاعر محمد الكوس، وأنها موجودة في الجزء الثالث من ديوانه الصادر عن مركز الشارقة للشعر الشعبي في عام 2011، والذي حققه اثنان من أبناء الشاعر الراحل وهما: علي محمد الكوس، وأحمد محمد الكوس - رحمه الله. وقال المزروعي: إن قصائد بن سوقات معروفة ومحدّدة، وأنه راجع كل قصائده وجمع ديوانه الذي اعتمد فيه على قصائد ديوان بن سوقات الأول الذي نشره خلال حياته، وعلى قصائد أخرى غير مدوّنة للشاعر، ولم يجد من ضمنها قصيدة «كم شكيت من الدهر» التي ليس ذكر بتاتاً في سجلّه الشعري. ولفت المزروعي إلى أن اللبس الذي وقع فيه الفنان ميحد حمد، حدث أيضاً مع المطرب المعتزل علي بن روغة عندما نسب قصائد لشعراء لم يكتبوا هذه القصائد أصلاً، وقد قام بتصحيح هذه الأخطاء في الطبعات الثانية لأسطواناته وأشرطته، بينما ظلت بعض هذه الأخطاء موجودة إلى اليوم دون أن ينتبه لها أحد. ورداً على سؤال حول سبب استعانة بعض الشعراء الإماراتيين في أمسياتهم بقصائد لشعراء مجايلين لهم أو شعراء سابقين، دون ذكر اسم الشاعر الأصلي، أجاب المزروعي بأن هذا الأمر حدث مع عدد من الشعراء الكبار في السن الذين كانت تختلط عليهم القصائد فيوردون قصائد لشعراء آخرين دون ذكر أسمائهم بسبب هذا الخلط والنسيان، وهنا يأتي دور المحققين والباحثين لفرز هذه القصائد ونسبتها لمؤلفيها الأصليين، استناداً على الوثائق والمخطوطات المكتوبة، وعلى المراجع السمعية والبصرية التي قد يكون لها الكلمة الفصل لحل هذا الخلاف، وحسم هذا الإشكال. قصيدة والدي أكبر أبناء الشاعر محمد الكوس، وهو علي بن محمد الكوس للكشف عن الملابسات المتعلقة بقصيدة «كم شكيت من الدهر» التي أثارت الجدل بين القراء، فأشار بداية إلى أن القصيدة كتبها والده، ولا شك ولا جدال في ذلك، حيث حقّق هذه القصيدة وغيرها من القصائد مع شقيقه الراحل أحمد، وتم نشرها في الجزء الثالث من الديوان الشعري لمحمد الكوس، مضيفاً أن المطرب ميحد حمد كان قد لحّن هذه القصيدة وغناها ونسبها بالخطأ للشاعر محمد بن سوقات، مضيفاً أن نشر «الاتحاد الأسبوعي» للقصيدة عند تناولها لسيرة حياة محمد الكوس هي التي أحيت هذا الجدل من جديد، وقال: «وأنا أؤكد لكم من منبركم هذا أن القصيدة كتبها والدي فعلاً، وكنت أنا أكثر أبنائه تفاعلاً وقرباً من نتاجه الشعري، بجانب شقيقي الراحل أحمد، ونعرف قصة هذه القصيدة وسبب كتابتها، وتشرفنا بتثبيتها في الجزء الثالث من ديوان الوالد- رحمه الله». وأوضح أن قصة هذه القصيدة تعود إلى ذكرى خاصة استحضرها والده، وأن الحس الشعري العالي لديه جعله يسترسل في تفاصيل هذه الذكرى، وصنعت في دواخله هواجس وتصورات متعددة لصياغتها بالشكل الأمثل أو بالقالب الأنسب الذي يترجم تلك الحادثة التي مرّ بها. وأضاف علي الكوس، أن والده أثناء سماعه الأغنية اتصل بالمطرب ميحد حمد الذي وعده بتصحيح هذا الخطأ غير المقصود، وذلك تحقيقاً للأمانة الأدبية وتثبيت الملكية الفكرية والإبداعية لأصحاب النتاجات الأصلية، غير أن ميحد حمد - كما أشار علي الكوس - لم يقم حتى الآن بتصحيح الخطأ الوارد في شريطه الغنائي، رغم مرور ما يزيد على ثلاثين عاماً منذ صدور تلك الأغنية. وأكد علي الكوس أن المطرب الإماراتي الراحل «أحمد العيماني» وهو من إمارة عجمان، كان قد لحّن وغنى القصيدة ذاتها، وفي العام نفسه الذي أصدر فيها ميحد حمد أغنيته، وذكر العيماني في شريطه أن القصيدة كتبها الشاعر محمد الكوس. وأشار علي الكوس إلى أنه يعمل حالياً على إصدار الجزئين الرابع والخامس من قصائد والده التي لم يسبق نشرها، ومن ضمنها قصائد كتبها أثناء عمله في منطقة الدمام في المملكة العربية السعودية. الخلط والتداخل ويرى الشاعر والباحث سلطان بخيت العميمي، أن ظاهرة الخلط والتداخل بين قصائد الشعراء ونسبة بعض القصائد لشعراء لمن يكتبوها في الأساس، هي ظاهرة قديمة وتحتاج جهوداً مشتركة بين الباحثين والمحققين في تراثنا الشعري المحلي من جهة، وبين الإعلام من جهة أخرى، وذلك لكشف اللثام عن الحقيقة والوصول للمعلومة التي لا تقبل الشك، وإنجاز ما هو مطلوب منا جميعاً وهو تحقيق «الأمانة الأدبية والتاريخية» وإعطاء كل ذي حق حقه. وطالب العميمي المحققين والباحثين بتحرّي الدقة قدر المستطاع، وأن على الباحث إذا وجد قصيدة ألاّ يكتفي برأي واحد حولها، بل عليه أن يتحقق ويتأكد من المعلومة التي استقاها، وذلك من خلال سؤال أهل وأقرباء الشاعر نفسه، وأن يبحث أيضاً في الكتب والمراجع التي يملكها، مضيفاً أن الإعلام أيضاً له دور في توضيح الحقائق المتعلقة بهذه الظاهرة وتنبيه القراء إلى الأخطاء التي حدثت ونسبة القصائد إلى كتابها الأصليين، وأن تكون هناك مبادرات صحفية للبحث في هذا الجانب بالتعاون مع الباحثين والشعراء والتواصل معهم في هذا السياق. وقال العميمي: «نجد في نطاقنا المحلي أن هناك الكثير من القصائد المنتشرة تُنسَب لشعراء معينين، وهي في حقيقة الأمر ليست لهم». مضيفاً «وكما نجد للأسف، وإلى اليوم، أن هناك دراسات وأبحاثاً تصدر وفيها كمّ كبير من الأخطاء المتعلقة بنسبة قصائد لشعراء لم ينتجوا هذه القصائد أصلاً، الأمر الذي يدعونا إلى تنبيه هؤلاء الباحثين إلى ضرورة بذلهم لجهود أكثر في المراجعة والتمحيص والفرز والاستبيان حتى لا تتكرر هذه الأخطاء مرة أخرى». وعن سبب انتشار هذه الظاهرة وكثرة القصائد المنتحلة سواء في نطاق الشعر الفصيح أو الشعر النبطي، أوضح العميمي أن السبب يعود لعناصر عدة، منها الرواة مثلاً، حيث يأتي راو وينسب إحدى القصائد لشاعر، وهي ليست له في الحقيقة، حيث يختلط الأمر على الراوي أو قد يكون نقلها من راو آخر دون التأكد من مصدر القصيدة، مضيفاً أن هناك عنصراً آخر يتمثل في المطربين الذين ينسبون قصائد قاموا بتلحينها وأدائها إلى شعراء آخرين، ربما بسبب النسيان أو الاستعجال أو عدم التحقّق، وضرب العميمي مثالاً بالمطرب ميحد حمد الذي نسب قصيدة «يا فريد اللون» التي كتبها الشاعر خليفة بن مترف لشاعر آخر هو علي الخوار، وقام ميحد في الشريط نفسه بنسبة قصيدة الخوار لبن مترف، أي أنه صنع العكس وخلط بين الشاعرين، وساهم نجاح الأغنية، وانتشارها السريع بين الناس، في إثارة غضب بن مترف وحدثت بينه وبين المطرب ميحد حمد قطيعة طويلة بسبب هذا الخطأ، وأوقف تعاونه معه. توثيق الشعر النبطي الشاعر والباحث سلطان بخيت العميمي لفت إلى أنه يعمل منذ فترة على تأليف كتاب بعنوان: «الشعر النبطي في الإمارات والقصائد غير المنسوبة لأصحابها» سيصدر خلال المرحلة القادمة، ويحتوي على 60 قصيدة منسوبة يتم الكشف عن أصحابها الحقيقيين. وقال العميمي إنه وخلال بحثه هذا، وجد قصائد منسوبة لأكثر من شاعرين، وهناك ما هو منسوب لأكثر من أربعة أو خمسة شعراء، ووصف العميمي هذا الانتحال أو هذا الخلط بأنه «ظاهرة قديمة»، وتعود إلى مائة عام تقريباً، مع بداية تدوين القصائد في الإمارات، لدرجة أن هناك قصيدة نسبت للشاعر الكبير «الماجدي بن ظاهر»، وهي ليست له، وأن هناك قصائد كتبها الشاعر محمد الكوس في الستينيات والسبعينيات ونسبت لشعراء آخرين، مضيفاً أن العمل على الكتاب تطلّب منه جهداً كبيراً، وعملاً موسّعاً، وتنقيباً دقيقاً، من أجل الوصول للمصادر الأصلية للقصائد والتحقق من كتّابها. «كم شكيت من الدهر» كم شكيت من الدهر وفراق خلّي ومرضي يزداد علّه فوق علّه ابعدوا به وتركوني وين أولّي حالتي يا ناس عقبه في مذلّه أسال اليوم الدياجي: وين خلّي والقمر اللي سايرن في الليل كلّه قلْ حشا ما يفيدني كثْر التِسلّي كل يوم يزيد شوقي والتُوَلّه ذرّ وداده في حشايي نازلِ اللّي مطّ قلبي ما رحمني يوم شَلّه
مشاركة :