كشفت بعض تعليقات القراء على مقالة الأستاذ قينان الغامدي، أول من أمس، حول مقالات الكاتب الساخر عبدالله المزهر، عن وجود أزمة حقيقية في الفهم والتلقي، حتى إن بعض المعلقين توهّم أن هناك خصومة بين: قينان، والمزهر، ونصحه بعدم تصفية الحسابات مع الخصوم من خلال المقالات! ولم يستطع أن يفهم قيام المقال على نوع من أنواع المفارقة، وأيسر صورها ما يعرف في تراثنا البلاغي بـ"المدح بما يشبه الذم". أتساءل: إذا كانت أزمة التلقي قائمة مع المقالات، ومع نوع بسيط من المفارقة في مقالة نثرية أصلها المباشرة، فكيف بها مع الشعر، وهو هيكل لغوي رامز معقد، قد يتطور الرمز فيه ليصل إلى حدود الرمزية الأدبية المعروفة بوصفها مذهبا؟ أزمة التلقي هذه، تفسر لنا السطحية التي نتعامل بها مع النصوص الشعرية، وتعلل ردود أفعالنا تجاهها تبعا للانطباع الأولي الأول، أو خضوعا لرأي تحريضي حولها، دون أن نكلف أنفسنا عناء إعادة القراءة، أو محاولة ربط أجزاء النص للوصول إلى معنى اللغة الإشارية التي يقوم عليها، وهي لغة تحتاج إلى شيء من التأمل والذكاء. ولكي تصل الفكرة، ننظر في تعريف الرمز اللغوي، أو الشعري، إذ يعرفه د. جبور عبدالنور بأنه: "الإشارة بكلمة تدل على محسوس، أو غير محسوس، إلى معنى غير محدد بدقة، ومختلف حسب خيال الأديب، وقد يتفاوت القراء في فهمه وإدراك مداه، بمقدار ثقافتهم، ورهافة حسهم، فيتبين بعضهم جانبا منه، وآخرون جانبا ثانيا، أو قد يبرز للعيان فيهتدي إليه المثقف بيسر"، والكلمة قد تكون رامزة عن طريق الصورة التي ترسمها، أو بكونها علامة على معنى ما، في ثقافة ما، كما أن الرمز قد يتكون من خلال الصورة الكلية في قصيدة كاملة، وله أنماط: دينية، وتاريخية، وأسطورية، وشعبية. وعليه، فإن جوهر الرمز في الشعر هو عدم التعبير عن الفكرة تعبيرا مباشرا، ولذلك أسبابه الاجتماعية والسياسية والفنية؛ لأنه محاولة مقصودة لإخفاء المعنى، خوفا من الجهر به، أو ليكون أمام المتلقي أكثر من احتمال، مما يعني إسهام الرمز في تعميق المعنى، وهو ما قد ينجح الشاعر فيه أو يفشل، فليس هذا مدار هذا المقال، ويعني -أيضا- أن الكشف عن الرمز يحتاج إلى معارف تاريخية ولغوية، ويتطلب معرفة أشكال الوعي المتراكمة في التراث. وحين تكون العلاقة بين: الصورة الفنية، وما ترمز إليه علاقة حدسية، لا حسية، فإنه لا يحق لأي متلق أو "متلقن" أو محرض أو متربص أو كائد أن يقول عن صورة شعرية رامزة حديثة -وبغض النظر عن مستواها الفني-: إنها تعني معنى محددا فيه إساءة إلى فئة أو تيار أو معتقد أو فكر، ولا تعني غيره؛ لأن ذلك ينفي عنها صفة الإيحاء المرتبطة بالرمز، فلو صارت تعني معنى واحدا محددا ومتفقا عليه، لما بقيت موحية بغيره، فضلا عن أن هذه العلاقة لا تُكتشف بوجود شبهٍ محسوس بين: الصورة، ورمزها؛ لأن الرمز المتشكل من الصورة الشعرية، يعتمد على إيجاد علاقات داخلية غير منظورة بينهما. أقول قولي هذا، علنا نتوقف عن قذف أعراض النصوص، ووضع الشعر والشعراء في أقفاص الاتهام، والتحريض عليهم بتهم لا تحتملها نصوصهم، وعلنا ننتهي عن القراءات الظنونية القائمة على الترصد للنصوص الشعرية وأهلها، وعلنا نتوب عن التفسيرات الشوهاء للمقالات وكاتبيها.
مشاركة :