تلفزيون لبنان «الرائد» لم تبق منه إلا ذاكرة جميلة و «مجروحة»

  • 6/28/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

من كان يتصور أن «تلفزيون لبنان» الذي كان في طليعة التلفزيونات العربية والسبّاق إلى غزو الفضاء وتقديم البرامج السياسية والشعبية والدرامية، سيؤول مصيره إلى الدّرْك الذي بلغه قبل أعوام، ليمسي في أسفل قائمة الفضائيات العربية الحديثة؟ من يقرأ الكتاب الضخم الذي وضعه الإعلامي زافين قيومجيان عن تاريخ تلفزيون لبنان وعنوانه «أسعد الله مساءكم: مئة لحظة صنعت التلفزيون في لبنان» (دار هاشيت أنطوان 2015) يعتريه الأسى ممزوجاً بالدهشة إزاء ما يكتشف من ماضي هذا التلفزيون البديع ومساره الفريد وريادته الشاملة التي خاضها، مستبقاً كل التلفزيونات العربية ما خلا تلفزيون بغداد الذي انطلق قبله عام 1956، ولكن ليظل محصوراً في إطار النشرات السياسية فقط كأنه منبر حزبي لإطلاق البيانات. كان تلفزيون لبنان سباقاً في كل الميادين: النشرة الإخبارية، البرامج الشعبية، الحوارات المفتوحة والمباشرة أو ما يسمى اليوم الـ «توك شو»، البرامج الدرامية التي سميت في البدء «تمثيليات تلفزيونية»، الإعلانات التي كانت فناً بذاته... ولم يكن مفاجئاً أن يفتتح اللحظة الأولى من البث التلفزيوني عند السادسة من مساء 29 أيار (مايو) عام 1959، وجه أنثوي جميل هو وجه نجوى قزعون الذي ظل مطبوعاً في ذاكرة المشاهدين آنذاك الذين تمكنوا من شراء آلة تلفزيونية. كانت تلك اللحظات والساعات القليلة التي تلتها منقولة على الهواء من المدينة الرياضية بداية تاريخ تلفزيوني لم ينفصل البتة عن تاريخ لبنان الحديث، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وفنياً... وكذلك في تناقضاته وحروبه الأهلية وخطوط تماسه. يكتب زافين تاريخ تلفزيون لبنان في حال من الحنين، فهو ابن هذا التلفزيون في طفولته، ثم في التحاقه به عام 1992 مراسلاً إخبارياً ومذيعاً. لكنّ الحنين لم يحل دون أن يكون عمله تأريخياً وتوثيقياً رصيناً ودقيقاً، وهو أمضى خمسة أعوام بحثاً وتنقيباً في أرشيف التلفزيون والصحافة التي واكبت مسيرته، وقضى مئات الساعات يشاهد الأفلام ويستعرض آلاف الصور، وقابل أكثر من مئتي شخص على علاقة بذاكرة التلفزيون وواقعه. ولم يختر عنوان كتابه «أسعد الله مساءكم» إلا ليستعيد هذه الجملة التي شاعت كثيراً وكانت بها تُفتتح نشرات الأخبار والبرامج الحوارية الحية، وهي لم تعد دارجة اليوم. أما العنوان الإضافي فيدل على أشهر مئة لحظة من تاريخ التلفزيون اختارها زافين بروية وحذاقة، انطلاقاً من خبرته وووفق ثقافته وذائقته، وهي تشمل نشرات الأخبار والبرامج الدرامية والترفيهية والأحداث السياسية والعسكرية والعلمية التي طرأت حينذاك، حتى في العالم، ورافقها التلفزيون وغطّاها. أما الحقبة التي شاء زافين أن يؤرخها فهي تمتد بين 1959 و1989 وهي الأعوام الثلاثون التي شهدت صعود التلفزيون اللبناني وازدهاره، ثم انحداره البطيء حتى الشلل الذي أصابه بعد ظهور موجة المحطات التلفزيونية الحزبية والخاصة من ثم، وإهمال الدولة له ولموقعه ودوره. هذه «اللحظات» يصفها زافين قائلاً: «لحظات ساهمت في تكوين ثقافتنا الشعبية وهويتنا الوطنية، هي لحظات صنعتنا، شئنا أم أبينا، على ما نحن عليه اليوم، أفراداً وجماعات...». ويضيف: «في هذه الذاكرة يبحر هذا الكتاب بحثاً عن الحكاية: حكاية التلفزيون في لبنان وحكاية لبنان عندما أحتاج إلى شاشته الصغيرة ليصنع من مواطنيه شعباً واحداً». ولكن، هل صنع التلفزيون حقاً من المواطنين اللبنانيين شعباً واحداً؟ هذا السؤال يجيب عنه كتاب زافين نفسه وإن في طريقة غير مباشرة، لا سيما عندما تطرق إلى الحرب اللبنانية التي قسمت الوطن أوطاناً والمدن مدناً، بخاصة بيروت التي انقسم التلفزيون بانقسامها شرقاً وغرباً، إلى تلفزيونين «عدوين» راحا يتبادلان البغضاء والحقد، متساجلين سياسياً وطائفياً. وبدا هذان التلفزيونان (تلة الخياط - بيروت الغربية والحازمية - بيروت الشرقية) خير صورة للدولة نفسها، فكانا يتّحدان عندما تتحد أطراف الدولة ويختصمان عندما «تتفرق» أطرافها. وبلغت ذروة الاختصام التلفزيوني بعد الانقسامات التي برزت منذ حرب السنتين، عام 1984 في أعقاب «انتفاضة 6 شباط» الشهيرة التي قادتها «حركة أمل» ضد حكم الرئيس أمين الجميل، وخروج بيروت الغربية وملحقاتها عن حكم الشرعية. حينذاك احتلت «حركة أمل» مبنى التلفزيون في تلة الخياط ومعها بدأ عهد تلفزيوني جديد ونشرات أخبار جديدة، وفي المقابل أصبح تلفزيون الحازمية هو «الشرعي» في المنطقة الشرقية وبرزت شرعيته كثيراً مع الجنرال ميشال عون الذي جعله منبراً له ولمعاركه الخطابية. ولم تمضِ سنة حتى أطلقت القوات اللبنانية تلفزيونها «المؤسسة اللبنانية للإرسال» في 23 آب (أغسطس) 1985 وراح ينافس تلفزيون الحازمية وتلة الخياط على السواء، لا سيما إعلانياً. وعلى غرار تلفزيون القوات اللبنانية سعى النائب زاهر الخطيب ومعه الوجه القواتي السابق والمنشق إيلي حبيقة، في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 إلى تأسيس تلفزيون حزبي آخر هو «تلفزيون المشرق» الذي تبنى قضية المقاومة واليسار والعروبة. ولعل ما يجدر التوقف عنده هو توصّل تلفزيون لبنان إلى امتلاك ثلاث قنوات: القناة السابعة وهي لبنانية وعربية ذات طابع شعبي وجماهيري مقرها تلة الخياط، القناة التاسعة الفرنكوفونية والموجهة إلى النخبة، ثم القناة الحادية عشرة الموازية للسابعة وهي تبث من الحازمية. كانت هذه المبادرة سباقة فعلاً في حقل البث المتعدد، حينذاك كان التلفزيون الفرنسي على سبيل المثل يملك محطتين فقط، وكان العالم العربي لم يعرف بعد هذه التجربة. وساهم البث الثلاثي في توسيع رقعة الجمهور اللبناني، بل تخطى البث حدود لبنان ليبلغ دولاً مجاورة مثل سورية وفلسطين والأردن. ولعله البث الفضائي الأول خارج الأقمار التي غزت أخيراً الفضاء العربي والعالمي. لا شك في أن ذاكرة التلفزيون اللبناني هي ذاكرة لبنان السياسي والثقافي والفني والاجتماعي. إنها ذاكرة اللبنانيين جميعاً على اختلاف طوائقهم وطبقاتهم وأهوائهم السياسية، وهي ذاكرتهم الجميلة و «البشعة» أو الدموية، لا سيما بعدما اندلعت الحرب لتستحيل حروباً كان التلفزيون شاهداً عليها وفي أحيان ساحة لها، إخبارية وسياسية وطائفية. لكنّ الصفحات المشرقة من هذه الذاكرة هي التي يحن إليها الجيل المخضرم من اللبنانيين الذي تابع الشاشة الصغيرة أعواماً تربو على الخمسين. كان على الدراما اللبنانية أن تولد في هذا التلفزيون على يدي الكاتبين فاضل سعيد عقل وأنطوان غندور والمخرجين الياس متى وغاري غاربيتيان. والتمثيلية الدرامية الأولى كان عنوانها «الشهم» ألّفها عقل وأخرجها متى وعرضت على الهواء في آب 1959، ثم توالت بعدها البرامج والمسلسلات المختلفة في هوياتها: البدوية والعربية واللبنانية، التاريخية والواقعية، الفكاهية والمأسوية... وراحت تبرز أسماء لا يمكن إحصاؤها، كتاباً ومخرجين وممثلين. لكنّ الملاحظ هو غياب مدينة بيروت عن هذه المسلسلات والبرامج والقضايا الراهنة والمعاصرة التي كانت مطروحة في مرحلة الحداثة التي كانت المدينة بدأت تعيشها. وبرزت ثقافة القرية والريف والصدمة المدينية. ويكفي في هذا الصدد تذكر برامج شعبية تقليدية أنجزها فنانون مثل «أبو ملحم (أديب حداد)، أبو سليم (صلاح تيزاني)، دعيبس (ميشال تابت) أبو المراجل (الياس رزق)... هذه البرامج والمسلسلات قد تبدو ساذجة أو بسيطة إذا استعدناها اليوم. لكنّ المسلسلات التي برزت بدءاً من أواسط الستينات بدت على مقدار كبير من الأهمية والعمق والثقافة. وفي هذا القبيل لا يمكن إلا تذكر كبار المؤلفين الدراميين من أمثال وجيه رضوان، أنطوان غندور، مروان العبد، أحمد العشي، محمد شامل، فارس يواكيم، بول شاوول... تمكنت الدراما اللبنانية خلال سنوات من إنجاز مسلسلات وبرامج مهمة ونجحت في صنع عصرها الذهبي مع مخرجين طليعيين وذوي خبرات كبيرة من أمثال: الياس متى وباسم نصر ونقولا أبو سمح وألبير كيلو وأنطوان ريمي وإيلي سعادة وإبراهيم الخوري وجان فياض وسمير نصري... وأنجز نصري سلسلة بديعة هي «نساء عاشقات» وفي إحدى حلقاتها وعنوانها «القبلة» شاهد الجمهور اللبناني القبلة الأولى الحقيقية أي فماً بفم على الشاشة الصغيرة قام بها الثنائي نضال الأشقر وفؤاد نعيم، وكانت تلك القبلة محط دهشة واهتمام جماهيريين. أما الممثلات والممثلون الذين صنعوا مجد فن التمثيل التلفزيوني وصنع التلفزيون عصرهم الذهبي فلا يمكن حصرهم وتعدادهم، بعضهم رحل وبعضم لا يزال على قيد الحياة. ينهي زافين كتابه البديع، نصاً وصوراً، بلقطة رهيبة تختصر واقع التلفزيون اللبناني وواقع لبنان وطن النتاقضات، جمع فيها بين «أربع مجانين وبس» وهو مسلسل جميل يقدم صورة حقيقية عن الجنون اللبناني وأغنية «راجع يتعمر لبنان» للمطرب والملحن زكي ناصيف، يقول زافين: «بدأ العقد الثامن (الثمانينات) بأغنية «أربع مجانين وبس» على تلفزيون لبنان وانتهى بأغنية «راجع يتعمر لبنان» على «المؤسسة اللبنانية للإرسال». أغنيتان تلخصان عقداً حافلاً بلحظات الجنون والحنين على الشاشة كأنهما «جنيريك» بداية العقد ونهايته. كتاب زافين سيبقى هو الذاكرة الوحيدة لما يسمى «تلفزيون لبنان» وللزمن الذي يسمى «جميلاً»، والذي كان التلفزيون شاهداً عليه وواحداً من صانعيه. صنع زافين ذاكرة للتلفزيون وللبنان التلفزيون، هذا الذي لم يعد موجوداً مثله مثل ذلك التلفزيون.

مشاركة :