ذاكرة الجزائر المجروحة بالتطرُّف والالغاء

  • 5/8/2014
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بعد رواية «الورم»، يعود الروائي محمّد ساري إلى «العشرية السوداء» ومآسي الحرب الأهلية التي ذاقت فيها الجزائر ويلات العنف المُسلَّح والإرهاب، عبر استرجاع يوميات بلدة صغيرة على أطراف الجزائر العاصمة. وبدلاً من عين الرمان، يختار الكاتب عين الكرمة مسرحاً لأحداث روايته الأخيرة «القلاع المتآكلة» (منشورات البرزخ). تُسرد أحداث هذه الرواية على لسان أحد أبطالها، المحامي الكهل سي عبد القادر، الأعزب المولع بالمال والنساء. وهي تنطلق من اكتشاف جثة نبيل، نجل صديقه رشيد بن غوشة، مدير المتوسِّطة المتقاعد، وتنتهي بالقضاء على الجماعة الإرهابية التي نغَّصت معيشة البلدة أياماً قليلة بعد ذلك. وهو يترك لشخصيات أخرى، بل لمعظم شخصيات النصِّ تقريباً، مهمة سرد جزء كبير ممّا يتعلّق في المسار العامّ لأحداث الرواية، لا سيما في تقديم بعض التفاصيل بما فيها الشابّ المُنتحِر نبيل (عبر يومياته) الذي وضع حدّاً لحياته بالمسدّس الذي كان يفترَضُ أن يقتُل به والده تنفيذاً لرغبة أو بالأحرى طلب الجماعة الإرهابية التي كانت تنشط في البلدة. فجاء السرد هنا في صيغة المتكلِّم. تقوم الرواية على تقنية الاسترجاع والاستبطان من خلال الغوْص في أعماق الشخصيات، ذلك أنّ موضوعها الأساس لم يكن واقعَ يوميات العنف والإرهاب (وهو حاضِر السّرد الروائي)، بمقدار ما كان يُمثّل مسار نشوء هذا الواقع وتشكُّله. من هنا نجد أنّ المقاطع الحوارية قليلة فيها بالنسبة إلى المقاطع السردية الخالصة والوصفية والخطابية المباشِرة (أي المناجاة أو المونولوغ)، مع غلبة الاسترجاع الزمني أو العودة إلى الوراء. تغوص رواية «القلاع المتآكلة» في دهاليز الأعوام الثلاثين الأخيرة من تاريخ الجزائر، وهي عمر استقلالها، عبر إعادة رسم الملامح البارزة في مسارات شخوصها: الراوي الأساس، المحامي سي عبد القادر وصديقه رشيد بن غوشة وعائلته وآخرون. وقد صاحب ذلك استعراضٌ لكثير من المظاهر والسلوكيات والمشاهد اليومية التي طبعت المجتمع الجزائري بمختلف مستوياته وشرائحه ونُخبه خلال تلك الفترة، مع التركيز على جينالوجيا الفساد والانحراف المادي وتتبُّع مساره ونشأته، إضافة إلى ردّ فِعل بعض الشرائح عليه عبر انحراف معنوي فكري تجد فيه ملجأً من الواقع الذي ترفضه. هو ردُّ فعلٍ يبرز في التطرُّف الأيديولوجي والانغلاق الدوغمائي الرافض للآخر. من هنا يمكن اعتبار الرواية مرافعة قاسية وشديدة اللهجة ضدّ النِّظام (وبدرجة أقلّ: ضدّ المتطرفين) الذي راكم الخيبات والفشل والسلبيات، فانفجرت عنفاً حصد الأخضرَ واليابس. وإذا كان محمد ساري قد اكتفى في «الورم» - أو كاد- باستعراض وِجهة نظر المتشددين والتبرير لهم وترك النهاية مفتوحة، فقد وسَّع الدائرة هذه المرَّة بحيث أفسح حيِّزاً مُعتبَراً لوجهة نظر اليسار (مُمثّلاً بمدير المتوسّطة المتقاعِد) وفئة اللامبالين (ويوجد منهم من كانوا يُسمّون بالأغلبية الصامتة والمستقلين) مُمثَّلين بالمحامي، لكنّه أغلق اللعبة هذه المرة بمشهد القضاء على الجماعة الإرهابية بكلِّ أفرادها. تبدو الروايةُ وكأنّها إعادة كتابة لرواية «الورم»، لمشابهتها لها في إطارها الحدثي والدلالي العام. وبالإضافة إلى أنّ كِلتيهما تعالج موضوع الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر في التسعينات، والتي يُصطَلح على تسميتها هناك بعشرية الإرهاب (أو العشرية الحمراء كِناية عمّا سال فيها من دِماء وسقط فيها من ضحايا وحدث فيها من دمار)، يتكرّر الإطار المكاني العامّ للأحداث: بلدة أو قرية صغيرة من القرى القريبة من العاصمة (عين الرمان في «الورم» وعين الكرمة في «القلاع...»). وتتكرر بعض الشخصيات النمطية الأخرى، وكذلك بعض جزئيات الحدث في الروايتين. تعتبر هذه الرواية تحليلية تعليلية، تعجُّ بالتفاصيل والحميميات التي يُرهِق بعضُها النصَّ ويجعله مترهِّلاً أحياناً، خصوصاً عندما تغدو إطناباً لا قِبل له به. لقد أراد ساري أن يقول بها بعد مسافة زمنية معقولة على انتهاء تلك الأحداث: «لكلّ هذا وصلْنا إلى هذه النتيجة»، وذلك بإبراز الصِّراع بين التطرُّف الأيديولوجي المشار إليه من جهة، والعواطف الإنسانية والمنطق من جهة أخرى. إنّ الصِّراع أو التناقض يبلغ أقصى ما يمكن في هذه الرواية إلى حدّ عزم الولد على قتْل أبيه، كما في حالة الشابّ نبيل المتعاطِف مع أطروحات التيار الإسلامي، وهو ابن اليساري المتطرِّف الذي ينتبه أخيراً (وبعد فوات الأوان) إلى مسؤوليته ومسؤولية المجتمع عامّة، وعلى رأسه السُّلطة في ترك الساحة خالية لهذا التيار كي يستولي على عقول الشباب وينحرف بها إلى ما وصلت إليه الحال... إنّ التطرف يؤدّي في كلّ حالاته إلى اهتزاز موقف المُتَّصف به وإضعاف حجّته، فتتآكل أسوار قلاعه (الأيديولوجيا) ولا تعود قادرة على مدِّهِ بطاقات الإقناع والتبرير والتَّعبئة أو حمايته من الضربات التي تأتيه من هنا وهناك. تُعدّ الرواية ببُعدها النِّسبي عن تلك الفترة نقيضاً واضحاً لما أسماه الدارسون بالأدب الاستعجالي، وقصدوا به ذاك السيل من الروايات التي كتبها أصحابها ابتداءً من النِّصف الثاني من التسعينات وتناولوا فيها الموضوع ذاتَه. إنها قراءة مُتأنية لمرحلة تاريخية قريبة ومحاولة صُنع وعْيٍ لهذه المرحلة وحيثياتها وِفق وِجهة نظر قد لا تُحقِّق إجماعَ كلِّ الأطراف. أمّا اللغة فهي جميلة، ويبدو اهتمام الكاتب بها واضحاً في نصِّه هذا، هو الذي اعتبره شخصياً – من دون التقليل البتة من قيمة نصوصه الأخرى- من أجود نصوصه وأكثرها تحكّماً في تقنيات الكتابة الروائية وفنياتها. آداب وفنون

مشاركة :