يحيلنا الحديث عن العلاقات بين ضفتَي المتوسط إلى آخر اجتماع عُقد بين دول الضفتين على أعلى مستوى، وأعني بذلك «قمة ضفتَي المتوسط» في إطار الحوار (5 + 5) في غرب حوض البحر الأبيض المتوسط، الذي يضم 5 دول في الضفة الجنوبية للمتوسط، هي (موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا)، وخمس دول في الضفة الشمالية، هي (البرتغال وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا ومالطا). وترأست فرنسا آخر اجتماع السنة الماضية محاولة منها لإشراك كل من الاتحاد الأوروبي وألمانيا والمنظمات التي تُعنى بالشؤون المتوسطية، وأبرز المنظمات الاقتصادية الدولية الحاضرة في المنطقة، ولإعداد خطة إيجابية جديدة لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وإحياء حركية التعاون في غرب حوض المتوسط عبر تنفيذ مشاريع عملية في مجال التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، والنظر إلى المشاريع الـ14 التي اختيرت من بين 260 مشروعًا انصبت عليها اللجنة التحضيرية من الأطراف كافة، التي تم إدراجها تحت اسم «المتوسط: فرص جديدة»، وهي تتطرق جميعها إلى الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي والبيئة والتنمية الحضرية والشباب والثقافة واللغات والتعليم. ومن بين المشاريع الرائدة إيجاد شبكة مدارس تعلم «مهن البحر» على الضفتين استجابة لما يسمى بـ»متطلبات الاقتصاد الأزرق»، أي البحري، وإيجاد «بيت الترجمة العربي - الأوروبي»، وربط المهرجانات المتوسطية بعضها ببعض.. وكل ذلك من أجل إيجاد تضامن بين الشمال والجنوب.. ولكن اصطدم المتتبعون بالنتائج المتواضعة لـ»قمة الضفتين»؛ لأن منظميها أرادوا تغييب السياسة عنها، فإذا بها تعود تلميحًا إلى الواجهة في الكلمة الختامية التي ألقاها الرئيس إيمانويل ماكرون؛ إذ اعتبر أن ثلاث مسائل رئيسية كانت السبب في توقيف عجلة تطوُّر العلاقات بين الضفتَيْن. وأولى هذه العوائق، وفق الرئيس الفرنسي: الماضي الاستعماري لأوروبا. أما العامل الثاني، وفق الرئيس ماكرون، فهو ارتدادات النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. وثالث العوامل الهجرات الجماعية وغير الرسمية التي تدفقت على الشواطئ الأوروبية، التي كان من إفرازاتها صعود تيار القوميات في البلدان الأوروبية، وهو ما برز في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والدنمارك، وبلدان وسط أوروبا. ولأن السياسة لم تكن «صديقة» للاتحاد من أجل المتوسط في عهد الرئيس ساركوزي، ولا لمسلسل برشلونة في عهد الرئيس شيراك، فإن فكرة «القمة» التي هي في الواقع اجتماع أو ورشة عمل انطلقت من مبدأَين اثنَين: الأول: الابتعاد عن صيغة الاتحاد من أجل المتوسط، الذي يضم في جغرافيته النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، وحصر التلاقي بين بلدان ما يسمى «المتوسط الغربي». والثاني: ترك السياسة جانبًا ومشكلاتها (الحرب في ليبيا، وموضوع الإرهاب والهجرات وتأشيرات الدخول...)، والتركيز على المبادرات الصادرة عن المجتمع المدني، الذي كان حاضرًا بقوة في مارسيليا. وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي كان قد أدار النقاش شدَّد على مسألة «الإنجازات»، ولكن في النهاية وزراء الخارجية العشرة الذين حضروا، إضافة إلى وزيرة الدولة الألمانية، وممثلين عن الاتحاد الأوروبي، والاتحاد من أجل المتوسط، ومنظمة التنمية والتعاون في أوروبا، والمؤسسات المالية الدولية، إنما جاؤوا وهدفهم المعلن إعادة إحياء التعاون، والعمل وفق «أجندة إيجابية» من خلال المشاريع المشتركة بين دول غرب البحر الأبيض المتوسط. ولكن هل ستكون كل هاته النوايا الحسنة قادرة جماعيًّا على تحويل الإرادات والعزائم التي برزت قبل إعلان برشلونة لسنة 1995، وقبل الاتحاد من أجل المتوسط لسنة 2008، واليوم مع قمة ضفتَي المتوسط إلى وقائع؟ أظن أن ذلك مسألة صعبة؛ فقد مرت تقريبًا سنة على قمة الضفتين ولم نرَ تطورًا ملموسًا في العلاقات بين الضفتين، فضلاً عن تداعيات جائحة كورونا.. كما أن هذا الاتحاد لم ينجح في الوجود الاستراتيجي الذي سطر له منذ البداية، كما أن اللقاءات الفكرية العديدة التي كانت تنظَّم هنا وهناك لم تعد قائمة؛ إذ كانت اللقاءات تترى، تحركها منظمات المجتمع المدني والجامعات والمؤسسات الاقتصادية والجيوسياسية المرموقة في المنطقة؛ لأن الجميع كان يؤمن بأن هذا الاتحاد ابتكار مؤسساتي، يهدف إلى خلق آلية شاملة، موسعة ومرنة بين دول شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط؛ فهو يضم مجموع دول المنطقة الأورو - متوسطية، أي 27 دولة من الاتحاد الأوروبي و16 دولة من الضفة الجنوبية والشرقية، بما في ذلك الدول التي لا تمثل جزءًا من عملية برشلونة (البوسنة والهرسك، الجبل الأسود وموناكو).
مشاركة :