ملامح النبوءة الشعرية عند رامبو في ديوان: فصل من الجحيم

  • 5/30/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

على حد تعبير الكاتب الأمريكي هنري ميللر: "لقد جعل رامبو الشعر خطرًا جدًا"، وذلك من فرط جرأته واجتراءاته في كل أشعاره، فهو إنسان يعيش بلا خوف، يستطيع اقتحام المجهول بل والجحيم فيدوسه بكلتا قدميه دونما خوف، أو حتى شك، وكأنه جنديًا لا يهاب حقول الألغام التى يعبر فوقها. كما أنه كشاعر نشأ في فرنسا في القرن التاسع عشر؛ تراه يثور على بلده، كي تتوحد أقاليمها بل وتمتد جغرافيتها إلى أبعد من ذلك، فتصل إلى أدغال أفريقيا تلك القارة القديمة التي عاش فيها الشاعر سنوات من عمره، عندما قرر الطواف في البلدان باحثا عن المال والإنسان. ومن هنا يبدأ رامبو في نبذ عرقه الأوروبي، ويصفه بالعرق الخبيث فيقول من وحي الثورة الفرنسية التي أعطت الحرية للفرد والجماعة: "ورثت عن أجدادي الغاليين العين الزرقا البيضاء، والعقل الضيق، والخرافة في القتال".وبعد أن يركب الأمواج العاتية، متنقلا بين قارات العالم الجديد والقديم يقول في فخر وتباهي كما فعل الشعراء العرب القدامى:"ما من أسرة في أوروبا لا أعرفها".ويُعلنها صريحة بلا خوف من دساس أو عسس: "ومن الواضح أني كنت دائما من سلالة منحطة. فالتمرد يسمو على إدراكي. ولم تهب سلالتي قط إلا لتنهب".ويصف حضارته الغربية بالنتنة: "فإني أرى أن مصدر متاعبي أني لم أنتبه من قبل إلى أننا نعيش في الغرب، في المستنقعات الغربية، وليس ذلك لأني أعتقد أن النور قد تلوث، والقالب قد تهلهل، والحركة قد انحرفت".وفور أن ينبذ رامبو عرقه الأبيض، يتجه بقوة لاكتشاف ذاته وعوالمها الخفية فيقول بلا تردد: "إني وحش همج أتكلم لتضلون".ولا ينتهي عند ذلك فحسب بل يعطف بكلمات، تضاد ما ذكره من فساد وخراب حضارته، فيعطي الشرق حقه من الحضارة والحكمة فيقول: ".. ورجعت إلى الشرق وإلى الحكمة الأولى السرمدية".ولاشك أنك كقارئ لا بد أن تُصاب معه بالدوار والجنون، عندما تراه يناجي الملائكة والشياطين معا!، فيعزف لحنًا صوفيًا غريبا فيقول: "غناء الملائكة العاقل يصاعد من سفينة النجاة: إنه الحب الإلهي. حنان! فقد أموت من الحب الدنيوي، أموت تفانيا. لقد تركت نفوساسيشهد حزنها لفراقي! وقد أخترتموني من بين الغرق! أفليس الباقون صحابي".ويقول مناجيا شيطانه: "آه لقد تحملت أكثر مما يطاق:- ولكن، أيا إبليس العزيز، أتوسل إليك نظرة أقل شزرا! وفي انتظار الخسائس الصغيرة المتوقعة، أنتزع لك، أنت يا تحي في الكاتب التجرد من ملكات الوصف أو الإرشاد، هذه الصفحات البشعة من كراسة لعين رجيم". وعندما يذهب إلى الجحيم وهو عين مقصده، يتحدث من وحي تعاليم أبوية يراها عديمة الجدوى، فما تم بثه منها خرافات لا أساس لها من الصحة ويبرهن على ذلك بالواقع الأوروبي الأليم. وهو كثيرا ما يلجأ للتناص الديني حتى وهو في حفرة الجحيم، حيث تعتريه هلوسات سمعية وبصرية، فيرفض ماضيه وطفولته، وكل ما يحمله الماضي من تصاوير ونقوش، كانت في نظره محض اختلاق فيقول في قصيدته هذيان 2:" ولعت بالتصاوير السخيفة، والنقوش فوق الأبواب، وزخارف المهرجين، والتزاويق الشعبية، وبالأدب الذي عفا عليه الزمن، ولاتيني الكنائس، والكتب الفاحشة المحشوة بأغلاط الهجاء، وحكايات جدات جداتنا، وقصص الجنيات، وكتيبات الأطفال، والأوبرات العتيقة، والأغاني السقيمة، والألحان الساذجة".وتمتد الصورة الشعرية في حلم يناقض كل مافات من ذكريات خادعة فيقول كنبيًا يعيد رسم ملامح العالم من خلال الوحي:" وحلمت بحروب وجهاد، ورحلات كشف لم ترُو، وجمهوريات ليس لها تاريخ، ومعارك دينية قمعن، وثورات في العادات والتقاليد، وتنقلات شعوب وقارات. آمنت بسحري المفاتن جميعًا".وهو كثيرًا ما يصور العالم الجديد، في قصائده، ويتراءى له مستقبل مفتوح أمام عينيه، بعد أن يتطهر من آثامه وخطاياه، بالاعتراف، فيستخدم في سبيل تحقيق ذلك قاموسا لُغويا، وشعريًا مفتوحًا على مصراعيه، كما تمتد النبوة في شعره، لتصل لاستشراف ملامح الأبدية التي يراها تارة جحيمًا، وتارة أخرى جنة عدن، وعندما يجدها يصرخ صرخة عالية كما فعلها نيوتن مع تفاحته فيقول: "وجدتها!ماهي؟ الأبدية إنها البحر مختلط بالشمس".

مشاركة :