كيف أصبحت نيوزيلندا واحدة من أكثر البلدان سعادة في العالم؟

  • 5/29/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يروق للنيوزيلنديين أن يعتبروا أنفسهم أشخاصا عمليين قادرين على التكيف مع أي ظروف تلقيها الأقدار في طريقهم، وذلك بفضل تمتعهم بمهارات حياتية مهمة، وتحليهم بروح إيجابية تقوم على إيمان كل منهم بقدرته على تذليل أي صعاب، وبأهمية تعاونه مع الآخرين في هذا الصدد. وإذا عدنا لستيفن لافين ورؤيته لنيوزيلندا، سنجده يقول إنها ليست بالدولة الكبيرة أو ذات النفوذ الواسع، لكنها تتمتع بـ "صورة ذاتية جذابة" ومُلهمة للبلدان الأخرى. ويشير إلى اضطلاع هذا البلد بدور قيادي على الصعيد الدولي، عبر القدوة التي يقدمها للآخرين، والنهج المثالي الذي يتبناه، وتشجيعه كذلك على الابتكار ذي الطابع العملي. ومن بين ملامح الصورة الإيجابية لنيوزيلندا، ما أظهره تقرير أصدرته الأمم المتحدة في عام 2019 حول السعادة في العالم، من تربعها في المركز الثامن على هذا الصعيد، وذلك للعام السابع على التوالي. كما أنها الدولة الوحيدة الواقعة خارج أوروبا، الموجودة بين الدول العشر الأوُلْ على تلك القائمة. وأشار التقرير نفسه إلى أن العاصمة ويلينغتون، صُنَّفت ثالث أكثر المدن سعادة في العالم. وقد أُدرجت مدينتا أوكلاند وكرايست تشرش، ضمن قائمة المدن العشرين الأكثر سعادة، رغم الزلزال المدمر الذي شهدته الأخيرة قبل عقد من الزمان، وكذلك الهجوم على المسجديّن الذي وقع فيها العام الماضي وأودى بحياة 51 شخصا.مصدر الصورةMartin Vlnas/Getty ImagesImage caption لم تتعرض نيوزيلندا لأي غزو خارجي بل تأسست بناء على معاهدة بين التاج البريطاني والسكان الأصليين لها وسبق أن اختار قراء صحيفة "دَيلي تليغراف" البريطانية نيوزيلندا باعتبارها الدولة المفضلة بالنسبة لهم لسبع سنوات متتالية. كما أفادت صحيفة "الغارديان" بأن استفسارات الأمريكيين بشأن الهجرة إلى هذا البلد، زادت بواقع 24 ضعفا فور انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام 2016. وتجتذب نيوزيلندا زوارها بفضل كونها أشبه بعالم زاخر بالتضاريس والمناظر الطبيعية المتغيرة باستمرار، والممتد على رقعة صغيرة نسبيا من حيث المساحة، إذ يمكنك أن تجد فيها غابات بكراً لم تمس، وبحيرات وشلالات وممرات بحرية ضيقة وبراكين نشطة وينابيع مياه ساخنة وشواطئ تكسوها رمال بيضاء اللون وأخرى سوداء، فضلا عن أنهار جليدية وجبال شاهقة وينابيع حارة، وغير ذلك. وبعد أن يعود زوار نيوزيلندا إلى أوطانهم، غالبا ما تلهج ألسنتهم بالثناء، على ما حظوا به من ترحيب مخلص ودافئ وهادئ من جانب المواطنين هناك. لكن هذه الدولة النائية ليست بالصورة المثالية التي قد تبدو عليها. إذ لا يخلو مجتمعها من العنصرية كذلك. ويقول الدكتور بول سبونلي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ماسي النيوزيلندية في مقابلة إذاعية أُجريت معه عام 2018: "لا يرى العالم أن العلاقات القائمة بين الأعراق المختلفة في مجتمعنا، شديدة السوء، فلا توجد جرائم كراهية مثلا بالقدر الذي يمكن أن يراه المرء في الدول الأوروبية.. لكن لدينا ممارسات عنصرية عارضة، تحدث بشكل يومي في أغلب الأحيان في مختلف أنحاء البلاد، وسنكون سذجا إذا اعتقدنا أنها غير موجودة". وقد أدت التفسيرات المختلفة بشدة لبنود معاهدة وايتانغي، التي نشأت بموجبها دولة نيوزيلندا، إلى إثارة عدد من عوامل التوتر العرقية والاجتماعية، ما قاد إلى اندلاع صراع استمر 135 عاما، إلى أن تم سن قانون خاص بهذه المعاهدة عام 1975، وشُكِلَت لجنة للحقيقة والمصالحة. وفي الوقت الراهن، تشهد نيوزيلندا تفاوتا مخزيا بين مواطنيها المنحدرين من أصول أوروبية ونظرائهم من أبناء البلاد الأصليين، على صعيد الصحة ومستوى التعليم، وكذلك فيما يتعلق بالأحكام القضائية التي تصدر لصالح كل من الجانبين. فضلا عن ذلك، تبدو الإحصائيات الخاصة بحالات انتحار الشبان بين أبناء شعب الماوري مرتفعة على نحو مأساوي. ونظرا لوجود هذا التفاوت، ينظر الكثير من المعلقين المحليين المعاصرين بتشكك، إلى الطابع التقدمي الذي يُقال إن بلادهم تتصف به. ويرى هؤلاء أن كثيرا من التطورات الإيجابية التي شهدتها نيوزيلندا، لم تنجم عن وجود رغبة واعية في إحداث تغيير لدى مواطنيها، وإنما لأن المجتمع اعتبر أن احترام قيم مثل المساواة والعدالة، هو الشيء الذي يجدر به فعله، في الوقت الذي نشأت فيه هذه الدولة. ويقول المؤرخ والمحلل الاجتماعي المرموق بول موون: "إذا نظرنا إلى الفترة التي تم فيها منح المرأة حق التصويت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، سنجد أنه لم يكن هناك من قال وقتذاك مثلا `نريد أن نكون أول دولة تقوم بذلك. بل كان الناس يرون أن `هذا حق مهم، لأنه سيُمَكِّن النساء من الإدلاء بأصواتهن، أو سيجعل المجتمع أكثر تمثيلا أو سيضفي عليه طابعا ديمقراطيا أكبر، وما إلى ذلك`". ويوضح موون أن الأفكار المتعلقة بتحقيق المساواة وضمان العدالة، ظلت قائمة حتى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، قائلا "في اعتقادي؛ هناك البعض ممن لا يزالون يتمسكون بتلك الأفكار. وقد ظلت باقية لوقت طويل للغاية، وهي تشكل المستوى الأساسي لمفهوم الهوية النيوزيلندية". لكن برغم أن هذه الأمة متعددة الثقافات لا تزال تقر قوانين ذات طابع تقدمي من الوجهة الاجتماعية، مثل إلغاء تجريم البغاء واعتبار الإجهاض مسألة صحية لا جنائية، فإن مون بات يشعر بأن الدافع للمضي على هذا الدرب قد تغير عما كان عليه في السابق. ويقول في هذا السياق، إن المنطق السائد لدى الكثيرين في نيوزيلندا الآن، هو القيام بهذا الأمر أو ذاك، لكي يكون لبلادهم السبق على مستوى العالم بشأنه "وهو ما يتجاوز في أهميته (لدى هؤلاء) اتخاذ مبادرات ذات طابع تقدمي في كثير من الحالات من الأصل". وبالرغم من أن أوتيراوا، وهو اسم نيوزيلندا في لغة الماوري، ليست بالمدينة الفاضلة على أي حال، فإن الطريقة التي تعاملت بها مع التفشي الوبائي لفيروس كورونا المستجد، بدا رائدا على مستوى العالم حتى الآن. ويتجسد ذلك في ما قالته أرديرن - في سياق إعلانها عن تخفيف طفيف لإجراءات الإغلاق الصارمة في 28 أبريل/نيسان – من أن بلادها حققت ما لم تستطعه سوى بضع دول في العالم، وهو احتواء انتشار كوفيد – 19 بين أفراد المجتمع. هنا تحول الاهتمام العالمي إلى نيوزيلندا من جديد. ومع أن هناك انتقادات وُجِهَت إلى أسلوب معالجة الحكومة النيوزيلندية لهذا الملف، فقد كان هناك من اعتبروا أن هذا الأسلوب يشكل نموذجا للوضوح وإبداء الثقة في العلم، والتعاطف أيضا مع من تضرروا من الوباء. وفي خطوة تعيد إلى الأذهان مُثل المساواة والعدالة التي تبنتها البلاد منذ أمد بعيد، قررت رئيسة الحكومة النيوزيلندية ووزراؤها، تخفيض رواتبهم بنسبة 20 في المئة لمدة ستة شهور، تضامنا مع من تأثرت دخولهم سلبا بفعل الوباء. وفي نهاية المطاف، لعل بوسعنا أن نستشهد بما قالته أرديرن من أنه "إذا كان هناك من وقت يمكن فيه سد الفجوة بين المجموعات المختلفة من الناس التي تعيش في مختلف أنحاء نيوزيلندا في أوضاع مختلفة ومتباينة، فهذا الوقت هو الآن". يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Travel

مشاركة :