لا أحد يعرف ما الخطوة التالية التي ستقوم بها القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”)، بعد قرارها في 19 مايو التحلّل من اتفاقات أوسلو، السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية، التي تم عقدها والسير بها منذ 27 عاما. كما ولا أحد يعرف إذا كانت تلك القيادة تستطيع شيئاً، فعلاً، غير البيانات والتصريحات، في مواجهة التبعات الناجمة عن ذلك في علاقاتها مع إسرائيل، أو ماهي أوراق القوة التي يفترض أن تكون بين يديها، لاسيما أنها لم تهيئ ذاتها، ولا كياناتها، ولا شعبها لمثل تلك الخطوة. وقد يجدر التذكير هنا بأن قرارات وقف التنسيق الأمني والاقتصادي تلك، ومراجعة الاعتراف بإسرائيل بموجب اتفاق أوسلو، تم اتخاذها في المجلس المركزي الفلسطيني، قبل خمسة أعوام، لكنها لم توضع موضع التطبيق، بل ولم تقم القيادة الفلسطينية باتخاذ أي إجراءات تحصّن الوضع الفلسطيني إزاء ردود الفعل الإسرائيلية، على مثل تلك الخطوات، ولا في أي مجال من المجالات. هكذا، فلعل البيان الذي أصدرته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، مؤخّرا، في الذكرى 56 لتأسيسها (28 مايو 1964 في القدس)، بقرار من مؤتمر القمة العربي في العام 1964، كان مناسبة لمعرفة خطة تلك القيادة، أو لمعرفة كيف تفكر، بخصوص اليوم التالي لذلك القرار. بداية، ذكر البيان، في ديباجته، فقرة تفيد بأن القيادة الموجودة “هي نفسها القيادة التي اتخذت قرار النضال والمقاومة وكذلك قرار السلام”، وهو كلام صحيح في العموم، لكن ثمة تفصيل على غاية الأهمية، تم حجبه، وهو أن المنظمة عندما قامت لم تكن الضفة وغزة محتلتين، وكان هدف منظمة التحرير، حينها، هو التحرير وعودة اللاجئين وإنهاء إسرائيل، وهو أمر تجاهله البيان، الذي لم يوضح، لا هذه المرة ولا في أي مرة سابقة، من اجتماعات اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني، هذا الفارق، أو لماذا أو كيف تمت تلك النقلة. ويأتي ضمن ذلك، بالطبع، التساؤل عن بقاء تلك القيادة ذاتها، كل هذا الزمن، مع أن الهدف تغير كثيرا، إذا بات يقتصر على “الاستقلال لشعبنا والدولة المستقلة المنشودة بعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران/يونيو للعام 1967 وفق قرارات الشرعية الدولية”. ومعلوم أن ثمة مشكلة أخرى، كبيرة هنا، وهي أن كلمة “شعبنا”، المذكورة في البيان، تعود إلى فلسطينيي الضفة والقطاع، دونا عن فلسطينيي 48، والفلسطينيين اللاجئين في بلدان اللجوء والشتات خارج أرض فلسطين التاريخية. في الديباجة، أيضا، ثمة فقرة بفكرتين متداخلتين وملتبستين، تنص على “إعادة بناء العلاقة مع إسرائيل على أساس العلاقة بين دولتين فلسطين وإسرائيل، والاعتراف المتبادل بينهما”. أي أن القيادة تعلن هنا أنها ستنتقل من كونها سلطة إلى كونها دولة، والسؤال المطروح، كيف؟ أو بماذا؟ وما الجديد الذي تمتلكه قيادة المنظمة كي تستطيع تحويل السلطة، وهي على تلك الدرجة من الضعف، وفي ظل أوضاع عربية ودولية غير مواتية، إلى دولة، رغم معرفتها بمدى هيمنة إسرائيل على الأرض، وعلى الفلسطينيين، وعلى مواردهم، وضمن ذلك بناهم التحتية والمعابر والتجارة والعملة، الخ..؟ ثم هل إسرائيل بعد التحول من سلطة إلى دولة، ستكون إسرائيل أخرى، وتقبل بعلاقة مع دولة فلسطين؟ أيضا، ثمة ملاحظة استدراكية في هذا الموضوع تتعلق بتأخّر القيادة الفلسطينية إعلان ذلك التحول، في حين أن استحقاق الحل الانتقالي، وفقا لاتفاق أوسلو، كانت مدته خمسة أعوام (1993 ـ 1999)، وعلما أن القيادة الفلسطينية حاولت التلويح بـ”إعلان الدولة”، عام 1999 إلا أنها انصاعت للضغوط الدولية والعربية، آنذاك، التي انصبت على الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ما أدى إلى تأجيل ذلك الاستحقاق. وبعدها القصة معروفة إذ حصلت مفاوضات كامب ديفيد (2000)، ثم تعثرت، ثم أفضت إلى نشوب الانتفاضة الثانية. على ذلك، فلماذا لم تعلن القيادة الفلسطينية التحول نحو الدولة، إذا كانت تمتلك ممكنات ذلك حقا، بعد الانتفاضة الثانية، أو بعد تحلل إسرائيل حتى من خطة “خريطة الطريق” (2003)؟ ولماذا لم تطرحها في ظل الزخم الدولي الذي نجم عنه الاعتراف بفلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة (2012)؟ والأهم من كل ذلك ماذا فعلت هي، كقيادة، لترسيخ هذا الإعلان، أو هذا التحول، على أرض الواقع، من خلال تفعيل منظمة التحرير، ومن خلال تطوير مؤسسات السلطة، وتعزيز المقاومة الشعبية، وجسر الفجوة بين الفلسطينيين وقيادتهم؟ مثلا، في فقرة أخرى فإن “اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير تدعو أبناء شعبنا الفلسطيني للالتفاف حول ممثلها الشرعي والوحيد وقائدة نضاله منذ تأسيسها”، والسؤال من المسؤول عن تهميش منظمة التحرير، وإضعاف مؤسساتها، وشل كياناتها، وإلحاقها بالسلطة؟ أليست القيادة ذاتها؟ أمّا نص القرارات التي جاءت في البيان فهو لم يوضح شيئا، إذا كرّر مقولة التحلل من الاتفاقات، فقط، في حين ذهب إلى الحديث عن “وجوب إلزام إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، بواجباتها ومسؤولياتها كافة استنادا إلى القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949”، علما أن إسرائيل لم تبال بأي قانون أو قرار دولي، منذ قيامها. وفي الإجمال فقد جاءت القرارات الأخرى بلغة إنشائية ومستهلكة، على عادة أي بيان يصدر عن أي جهة، مثل “التأكيد على حق شعبنا في مواصلة كفاحه…وتصعيد مقاومته”، و”حل قضية اللاجئين استناداً لقرارات الشرعية الدولية”، و”ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية”، و”دعوة الدول إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضد المستعمرات والمستعمرين ومنتجات المستعمرات تنفيذاً لالتزاماتها التعاقدية وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، ودعم حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها”، و”الطلب من الدول التي لم تعترف بدولة فلسطين 1967 بالقيام بذلك فوراً”.. و”الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام، ودعوة الدول العربية إلى التمسك بقرارات القمم العربية، والتمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني”. لا جديد عند القيادة الفلسطينية، ولا جديد تحت الشمس في أفق الفلسطينيين في الظروف الراهنة، لا بوجود سلطة، ولا مع تسميتها كدولة.
مشاركة :