اعتادت القيادات والفصائل الفلسطينية منذ زمن طويل، الحديث في خطاباتها السياسية، عن المراحل المفصلية والانعطافات التاريخية والتحديات المصيرية، التي تمر بها القضية الفلسطينية، وعن الحلقة المركزية التي يجب التركيز عليها في كل مرحلة. هكذا، وتبعا لما تقدم، فقد بات لدى كل فصيل من الفصائل الفلسطينية (بين 15 و20 كيانا)، “دزينة” من البرامج، أي بات لدينا بين 100 و200 برنامج، علما أن الحديث يدور عن 55 عاما من الكفاح الطويل والمعقد والمضني؛ وتلك هي الملاحظة الأولى. أما الملاحظة الثانية، فهي أن معظم المخرجات (بحسب المصطلح اليمني)، أو الانتظارات (بحسب المصطلح التونسي)، الناجمة عن تلك البرامج الفصائلية كانت تشبه بعضها إلى حد كبير، مع تغيير في بعض المصطلحات، فكلها تؤكد على ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية، وتعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم، ومواصلة الكفاح المسلح والكفاح الشعبي، والتمسك بالحقوق الوطنية والتاريخية، وتوطيد العلاقات مع القوى القومية والتقدمية على الصعيدين العربي والدولي. وللتذكير فقد سمعنا ذلك مرارا وتكرارا في مواجهة مخططات الجدار الفاصل، والاستيطان، وتهويد القدس وحصار غزة، ومواجهة خطة صفقة القرن، ومواجهة خطة الضم، أي نفس التوصيفات والترسيمات في كل مرة، وعند كل تحدٍّ! بيد أن الفلسطينيين، وأقصد كياناتهم وقياداتهم، لم تعمل وفقا للبرامج التي أصدرتها، وتلك هي الملاحظة الثالثة، بحيث إن ما يميز العمل الوطني الفلسطيني تلك الفجوة بين الأقوال والأفعال، أو بين الخطاب والممارسة، كما بين الشعارات والإمكانيات، وبين الرغبات والقدرات، بحيث انطبق عليهم القول المعروف للينين (زعيم الثورة البلشفية)، والذي يفيد بأن “الخطوة العملية خير من دزينة برامج”، علما أن ذلك يتناقض مع قوله الأخر المعروف ومفاده أن “لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية”، وبديهي أن ذلك يأخذنا إلى الجدل حول ما التي تسبق الأخرى، النظرية أم الممارسة؟ كما يأخذنا ذلك إلى فكرة أن النص المقدس حمّال أوجه، وأنه يرتبط بالمكان والزمان والظرف والمعطيات، إذ لا توجد حقيقة مطلقة. مناسبة هذا الكلام العريضة ـ النداء التي أصدرتها، قبل أيام، مجموعة كبيرة من الشخصيات الفلسطينية، في مختلف أماكن وجود الشعب الفلسطيني (نصها في: www.palestineforum.net)، والتي تميزت بالآتي: أولا، مطالبتها بحث الخطى لإحداث تغيير سياسي فلسطيني، من مدخل انتخاب مجلس وطني، نتيجة تعذر إحداث ذلك التغيير بطريقة التوافق بين الفصائل، وفق ما بينت التجربة، كما أنه لم يتم إعداد العدة للتغلب على التحديات والمخاطر المشتركة، لذا وإزاء حالة التكلس والاهتراء والتقادم، التي تعتري الكيانات الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل)، بات خيار العودة إلى الشعب هو المدخل الأنسب للتغيير وبالطرق الديمقراطية، وهي أفضل من الاقتتال والتنازع، وأفضل من التوافق على استمرار الواقع الذي لا يعني سوى المزيد من التدهور. ثانيا، تميزت الوثيقة بأنها تطرح لأول مرة فكرة مشاركة كل الفلسطينيين أينما كانوا في العملية الانتخابية، إذ لا يمكن أن تكون منظمة التحرير ممثلة للشعب الفلسطيني حقا، من دون أن تمثل الشعب كله حقا، هذا مع علمنا أن المنظمة، والكيانات الفلسطينية، كانت قد استثنت فلسطينيي 48، وفيما بعد، أي منذ قيام السلطة وفقا لاتفاق أوسلو، فقد تم استثناء مجتمعات الفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات، وكل ذلك كما نعلم أسهم في تهميش المنظمة لصالح السلطة، وكان واضحا أن العريضة الصادرة حملت توقيعات لشخصيات من فلسطينيي 48، وهذا تطور على غاية في الأهمية، وهو تصحيح للسياسة الفلسطينية، علما أن إسرائيل تنظر إلى الفلسطينيين ككتلة واحدة، ولكنها تتعامل مع كل جزء بطريقة معينة لتجزئة قضيتهم، ولتقويض فكرتهم عن ذاتهم كشعب. ثالثا، فكرة الانتخاب من أجل التغيير السياسي، الغرض منها إعادة السياسة الفلسطينية إلى نصابها، من كونها رهنا بشخص أو عدة أشخاص، أو فصيل أو فصيلين أو ثلاثة، إلى كونها قضية يجب أن يقرر الشعب فيها مصيره، أي إعادة التقرير في السياسات والخيارات الوطنية والمصيرية إلى الشعب، وباعتبار أن تلك العملية هي التي يمكن أن تحسم الجدل بشأن موازين القوى (أي أحجامها) في الإطارات التشريعية الفلسطينية، وبشأن الخيارات السياسية والكفاحية التي يفترض انتهاجها. ناهيك أن الحديث عن المجلس الوطني يتضمن هنا حسم المرجعية لصالح منظمة التحرير، بما يتضمنه ذلك من إحداث فصل إداري ووظيفي بين المنظمة والسلطة، بعد أن تم تهميش المنظمة لصالح السلطة، منذ 27 عاما، أي منذ إنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع بموجب اتفاق أوسلو (1993). رابعا، في العريضة ـ النداء ما يؤكد على استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني، بعد أن أضحت بمثابة سلطة لجزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من حقوق، وهي دعوة للمطابقة بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين، على الضد مما فعل اتفاق أوسلو، الذي انطلق من اعتبار الصراع كأنه بدأ في حرب (1967) وأن حق تقرير المصير ينطبق على فلسطينيي الضفة وغزة المحتلين في تلك الحرب. ناهيك تأكيده على الكفاح من أجل الحقوق أيضا، الحقوق الوطنية، الفردية والجمعية. مفهوم أن الوضع صعب ومعقد وغير مواتٍ فلسطينيا وعربيا ودوليا، لمثل تلك الخطوة، لكن الغرض منها بعيد عن أيّة أوهام، والمساهمة في تعزيز ثقافة سياسية تؤكد ضرورة التغيير السياسي، وأن قضية الفلسطينيين واحدة أينما كانوا، وأن مصلحة شعب فلسطين فوق مصلحة الفصائل، وأنه آن الأوان لتحويل الأصوات الفردية النقدية في الساحة الفلسطينية إلى صوت جماعي. آن للفلسطينيين أن يخرجوا من أسر المجادلات أو المجالدات البيزنطية، آن لهم أن يؤسسوا لخطوة عملية تنتشلهم من هذا الفراغ، أو من هذا الضياع مهما كانت متواضعة. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :