قضية اللاجئين الفلسطينيين في الشتات حساسة الى درجة أنها تهدد مسار أي مفاوضات للسلام. الإسرائيليون يعتبرون عودة اللاجئين تهديدا وجوديا لإسرائيل، بينما يعتبرها الفلسطينيون جزءًا من الحق التاريخي للملايين ممن هجروا من أرضهم. ويجب الاعتراف، بأن هناك مئات الآلاف من لاجئي الشتات قد استوطنوا بلادًا بديلة. وربما أمكن اقناع الذين وجدوا أنفسهم في كندا والولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا، بأن يحصلوا على تعويضات عما فقدوه من أملاك، وعلى جنسيات البلدان التي يقيمون فيها. بقي أن هؤلاء ليسوا هم المشكلة. ذلك أن هناك تجمعات سكانية فلسطينية ضخمة في لبنان والأردن وسوريا وعدد آخر من الدول العربية، لا هي تقبل الاندماج، ولا مجتمعات ضيافتهم تقبل بالفلسطينيين كمواطنين. ويُنظر إليهم، في لبنان على سبيل المثال، كتهديد أيضا للتوازن الديمغرافي القائم بين الطوائف. وثمة بلدان تمنحهم امتيازات تفوق أحيانا ما يحصل عليه مواطنوها، ولكنها امتيازات تعاطف وتضامن مع “لاجئين”. وهو ما يمنح هذا الوصف صفة هوية مؤقتة وإشكالية. هذا يعني أن المسألة ليست مسألة مال، ولا هي مسألة جنسيات أو انتماءات جديدة. والفلسطيني، على أي حال، يظل فلسطينيا حتى ولو أعطيته كندا كلها. شيء يشبه “متلازمة” شعورية جسيمة تجمع بين الانتماء والتاريخ والهوية والذاكرة والروابط الأسرية، وتمتد الى كل التفاصيل الحياتية، بما فيها الطعام والملبس. السيدة البريطانية ميشيل رينوف، الأسترالية المولد والناشطة السياسية، لم تترك فرصة إلا واستغلتها للدفاع عن فكرة أن يعود اليهود الى وطنهم الأصلي، وأن يتركوا فلسطين التاريخية كلها للفلسطينيين. وعرضت تصورها في لقاءات ومنتديات دولية عدة، بما فيها البرلمان البريطاني، فضلا عن إسرائيل نفسها. تقول الليدي رينوف إن جمهورية بايروبدجان التي تأسست في العام 1928 بدعمٍ وتشجيع من يهود أمريكا أنفسهم ممثلين في هيئة كانت تضم في عضويتها عالم الفيزياء اليهودي المعروف آينيشتاين والكاتب الأمريكي اليهودي المعروف غولدبيرغ، هي الوطن الأصلي لليهود، ويمكن لشتات اليهود أن يعودوا إليها لكي يعيشوا بأمن وسلام. هذه الجمهورية التي تقع في جنوب شرق روسيا، كانت جزءا من حل لمشكلة الإثنيات القومية في روسيا التي حصل كل منها على كيان خاص وحكم ذاتي في إطار الجمهوريات السوفياتية السابقة. وعندما تفكك الاتحاد السوفياتي، أصبح بإمكان هذه الجمهوريات أن تعزز استقلالها على الأقل، بل وأن تحاول الانفصال أيضا. ما يهم في المسألة هو أن هذه الجمهورية بحجم سويسرا. بمعنى أنها تستطيع أن تستوعب أكثر من عشرة ملايين نسمة من دون أن يشعر المواطنون أنهم يعيشون في زحام، كما هو حاصل في إسرائيل. الإسرائيليون يرفضون الفكرة طبعا. كذبوا الكذبة الكبرى بشأن “أرض الميعاد”، وصدقوها، ولا يريدون التخلي عنها. وعلى الرغم من أن فلسطين هي أرض الزيت والزيتون والزعتر، فقد ظل الاسرائيليون يكذبون على أنفسهم بأنها أرض اللبن والعسل. لا أعرف كيف. شيء من حماقة لا مثيل لها، جرّت كذبة بحبل كذبة، في قطار أكاذيب طويل، صار اسمه “إسرائيل”. وفي الواقع فإن بايروبدجان أرض لبن وعسل فعلا. ويعيش اليهود فيها حياة رغيدة بالفعل. شخصيا لا أفهم كيف يمكن ليهودي أن يترك نيويورك أو باريس ليعيش على أطراف غزة. قلة ذوق، دع عنك كل شيء آخر. ولكن ليس من الصعب إدراك السبب الذي دفع الى إهمال تلك الجمهورية. فإسرائيل كمشروع استعماري بريطاني، وُجدت لتؤدي وظيفة. والمشروع الصهيوني، بوصفه امتدادا لإمبريالية ناشئة في ذلك الوقت، ما كان ليتوافق مع حل اشتراكي لـ”المسألة اليهودية”. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد أصبحت الوظيفة الاستعمارية “حلا” ليس لتلك “المسألة”، وإنما لضمان الهيمنة البريطانية في المنطقة. ما هو ثابت على أي حال، إن إسرائيل لا تريد أن ترحل. والإسرائيليون، سواء لأسباب تتعلق بقلة الذوق، أو بقلة العقل، لا يريدون العيش في أرض اللبن والعسل. ما هو السبيل لإغرائهم بها؟ هناك مقدار، غير مدروس كفاية، يجعل الإسرائيلي عدوانيا حتى مع نفسه. وعندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، فان عدوانيته تتحول الى حيونة تدفعه الى ارتكاب جرائم، حتى من دون تأنيب ضمير. هذه “الحيونة” مفيدة وقابلة للتوظيف. الدعوة الى تحويل بايروبدجان الى أرض لجمع الشتات الفلسطيني، في خطة بديلة للعودة، سوف يدفع الإسرائيليين الى إعادة النظر. والطبائع العدوانية التلقائية سوف تدفعهم، ولو بدوافع الغيرة، الى “المطالبة” بتلك الجمهورية. الزحام سوف يخف. والمشروع الاستعماري المتضائل، سوف ينزع عن إسرائيل وظيفتها. والعقل ربما يُمكنه أن يُسترد.
مشاركة :