تتمثل قضية اللاجئين الفلسطينيين في معانيها مختلف تجليات الصراع ضد المشروع الصهيوني، على المكان والزمان والرموز والرؤى، لذا فإن هذه القضية ظلت بمثابة المحرك للنهوض الوطني الفلسطيني المعاصر، بل إن اللاجئين هم من دفع الثمن الأكبر، من معاناتهم وأرواحهم، ثمن انطلاق المقاومة الفلسطينية المسلحة، مع ذلك فإن موازين القوى المختلة، والمعطيات السياسية السائدة، أبقتهم في دائرة الحرمان من الهوية والوطن، بل إن عملية التسوية المجحفة، التي تمت وفقاً لاتفاق أوسلو (1993)، أدت إلى تهميش قضيتهم، حتى إنهم حُرموا من كيانهم السياسي (منظمة التحرير)، ومن أي إطارات قد تسهم في بناء مجتمعهم، وتحفظ هويتهم، وتعبر عن ارتباطهم بقضيتهم الوطنية. وقد يجدر التنويه إلى أن مصادر تصفية أو إزاحة مكانة اللاجئين، وحقهم في العودة، لم تصدر عن أطراف خارجية فقط، أي من إسرائيل أو الولايات المتحدة، فهي ناتجة، أيضا، مباشرة أو مداورة، من مصادر ذاتية عربية وفلسطينية، عن وعي أو من دونه، تبعا للآتي: أولاً.. مسار تفكك الشعب الفلسطيني، وضعف إدراكات الفلسطينيين لكونهم شعبا واحداً، سيما بعد إقامة السلطة، وانتقال ثقل العمل الفلسطيني إلى الداخل، وضعف تمثل ذلك من الناحية العملية، لغياب إقليم واحد يعيش فيه الفلسطينيون كشعب، وهذه عملية تنتج عن عوامل الزمن وتباين أوضاع وحاجات وأولويات الفلسطينيين، وخضوعهم لأنظمة سياسية متعددة، ووجودهم في أوضاع قانونية وسياسية مختلفة. ثانياً.. اختفاء عديد من مخيمات اللاجئين، الشاهد على النكبة، في لبنان وسوريا، وأيضا بحكم ضمور مجتمعات اللاجئين بسبب تشريدهم، في حالتي فلسطينيي سوريا والعراق، أو بحكم التضييق عليهم ودفعهم إلى الهجرة كما في الحالة اللبنانية، ناهيك أن فلسطينيي الأردن في حالة خاصة بحكم المواطنة. ثالثا.. غياب الاجماعات الوطنية، والافتقاد إلى هدف وطني جامع، إذ أن حل الدولة الفلسطينية في الضفة لا يجاوب على السؤال المتعلق بحقوق اللاجئين، وضمنها حق العودة، خاصة وفق التمثلات التي جرى فيها، ووفقا لتطبيقات اتفاق أوسلو (1993)، الذي هو في أقصى حالاته مجرد تسوية لجزء من شعب على جزء من أرض في جزء من حقوق. رابعاً.. تهميش منظمة التحرير وتحول الحركة الوطنية إلى سلطة تحت الاحتلال، مع غياب أي حل لمشكلة اللاجئين حرم الفلسطينيين من كيانهم السياسي، وأضعف إدراكاتهم لكونهم شعبا واحدا، وحصر تمثيل السلطة في فلسطينيي الضفة والقطاع. هذه هي المحددات التي لعبت دورا كبيرا في تعيين قضية اللاجئين، ومكانة حق العودة، في الواقع الفلسطيني، وفوق ذلك يمكننا ملاحظة أن الحركة الوطنية الفلسطينية تعاطت تاريخيا مع قضية اللاجئين وحق العودة بطرق مختلفة. ففي بداياتها لم ترفع تلك الحركة شعار “حق العودة”، فوفقاً لإدراكاتها السياسية دمجت بين هذا الشعار ـ الهدف مع هدف التحرير، كتحصيل لعملية مفترضة يجري عبرها استعادة أو تحرير كل فلسطين التاريخية، حتى أن “الميثاق الوطني” نص على أن فلسطين هي “وطن الشعب العربي الفلسطيني” وإنه “صاحب الحق الشرعي في وطنه فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني. ويجدر التنويه، أيضاً، إلى أن تلك الحركة (المنظمة والفصائل) لم تميّز بين الحقوق السياسية للشعب وبين حقوق الفلسطينيين اللاجئين المدنية الفردية، في بلدان اللجوء، ما يفسر أنها لم تعمل من أجل تغيير القوانين المدنية المتعلقة بتحسين أوضاع اللاجئين وتخفيف معاناتهم في لبنان، إبان سيطرتها هناك في سبعينيات القرن الماضي. في مرحلة لاحقة، اتسمت بتحول القيادة الفلسطينية من برنامج “التحرير” إلى “البرنامج المرحلي”، في الدورة ال 12 للمجلس الوطني (1974)، بات هدف العودة يتصدر مختلف المقررات الصادرة عن دورات ذلك المجلس، إلى جانب الحق في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة، على رغم معرفة الجميع أن القصد، من الناحية العملية، كان إنهاء الاحتلال للضفة والقطاع، وإقامة دولة فلسطينية. بعد ذلك، ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (أواخر 1987) تم تقديم هدفي الحرية والاستقلال على هدف العودة، من الناحية العملية، بحكم الخارطة السياسية والجغرافية والبشرية لتلك الانتفاضة، والمحددات الموضوعية والسياسية لهذه المسألة، إلا أن ذلك الأمر لم يعن تعارض هذه الأهداف مع بعضها البعض، أو تقديم بعضها على حساب الآخر، وهذا ما نصّت عليه “وثيقة الاستقلال الفلسطيني”، التي أكدت في فقرتين متتاليتين على “حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية الراسخة، بما فيها حقه في العودة، وحق تقرير المصير، والاستقلال والسيادة على أرض وطنه”. بيد أنه، على رغم ما تقدم، فإن تلك الانتفاضة خلقت تمييزاً ظاهراً، على الصعيد، النظري، بين مستويين من مستويات القضية الفلسطينية، المستوى الأول، يتم التأكيد فيه على دحر الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، حيث يتوافر الأساس الذاتي لذلك، وحيث يتوافر الإسناد الموضوعي ممثلا بالشرعية الدولية والعربية، أما المستوى الثاني فيفيد باستكمال العملية الوطنية، من أجل الحقوق الفلسطينية الأخرى، وفي مقدمها حق العودة، وبالتالي الإسهام في تقويض أسس المشروع الصهيوني في فلسطين، وهكذا نجد أن التمايز النظري الظاهر يعكس، ربما بطريقة مداورة، ارتباطا متكاملاً بين المستويين المذكورين للعملية الوطنية الفلسطينية؛ طبعا هذا في حال توفر الإدراك والإرادة اللازمين أو المناسبين. في مطلع التسعينيات، ونتيجة للمناخات التي سادت، آنذاك، على خلفية تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق وحرب الخليج الثانية، استطاعت الولايات المتحدة القطب المهيمن على الصعيد الدولي، عقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط (أواخر العام 1991)، فارضة الخطوط المتعلقة بشكل هذه الدعوة وجدول الأعمال وطريقة التفاوض، ومع ذلك فإن رئيس الوفد الفلسطيني السيد حيدر عبد الشافي، أكد في كلمته في حفل الافتتاح، آنذاك، على المكانة المركزية لحق العودة بالنسبة للشعب الفلسطيني، بقوله: “بغض النظر عن طبيعة وظروف الاضطهاد، الذي نتعرض له سواء من خلال الحرمان والتشريد في المنفى والشتات، أو من خلال وحشية وقمع الاحتلال فإن الشعب الفلسطيني لا يمكن تمزيق وحدته، وسنبقى موحدين كشعب حيثما نكون، أو يفرض علينا أن نكون… وفي الوقت الذي نخاطبكم تلازمنا، وتلاحقنا، عيون الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948، ومن المشردين منذ عام 1967، ومن المبعدين، فليس أقسى من مصير الإبعاد والنفي، أعيدوهم إلى الوطن، فحق العودة حق لهم (..)”. ولشعبنا الشجاع المعذب نقول “سنعود، وسنبقى، وسننتصر، لأن قضيتنا عادلة (…) إن مخيمات اللاجئين لا يمكن أن تكون المأوى اللائق لشعب ترعرع على أرض فلسطين وتحت دفء الشمس والحرية (…) ومع أن الإرادة الدولية قد أكدت حقهم في العودة من خلال قرار الأمم المتحدة الرقم 194 إلا أن هذا الواقع يتم تجاهله وتعطيله عمداً (…) لسنا نريد/نحن الفلسطينيين/ما هو أقل من العدالة”. بيد أن التطور الأبرز في هذا الأمر حصل بعد اتفاق إعلان المبادئ الفلسطينية – الإسرائيلية (أيلول/ سبتمبر1993)، بشأن قيام حكم ذاتي انتقالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ جرى التوافق، بين الطرفين المعنيين مباشرة (الإسرائيلي والفلسطيني)، على تأجيل التفاوض بشأن قضية اللاجئين ضمن قضايا أخرى شملت “القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات والتعاون” بضغط من إسرائيل وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية. مع ذلك فإن إسرائيل فشلت في طي هذه المشكلة في المفاوضات الثنائية والمتعددّة، على الرغم من أنها نجحت في تأجيلها وحرفها عن مسارها الحقيقي، في حين نجح الطرف الفلسطيني في تثبيتها، في المفاوضات متعددة الأطراف، من دون أن ينجح في فرض تصوراته على إسرائيل بالنسبة إلى هذا الموضوع. واضح من هذا العرض استعصاء حل قضية اللاجئين وفق “حق العودة” على الحل، إذ المسألة تتعلق بموازين القوى، وبموقف إسرائيل التي ترى أن هذا الحق يهدد مستقبل وجودها، كدولة يهودية، وينزع منها أي مبرر أخلاقي للوجود، ويظهر الفلسطينيين كضحية لها، فضلا عن أنه يكسر احتكارها مكانة الضحية. وكما شاهدنا بعد إقامة السلطة، فقد حصرت القيادة الفلسطينية قضية فلسطين بمجرد إقامة دولة في الضفة والقطاع، من الناحية العملية، ما أدى إلى تشوّش الثقافة السياسية، وتولّد خيبة أمل في تجمعات اللاجئين من حركتهم الوطنية، ونشوء نوع من التصدع في رؤية الفلسطينيين لذاتهم في مختلف تجمعاتهم، لكونهم شعباً واحداً؛ خصوصاً أن ذلك تساوق مع تحوّل ثقل الحركة الوطنية إلى الداخل، وتهميش منظمة التحرير، التي طالما اعتبرت بمثابة كيان سياسي لشعبنا في مختلف أماكن تواجده، ورمز لهويته وكفاحه، لحساب السلطة. ومعلوم أن تلك هي المرة الثانية التي يحصل فيها إزاحة تجمع من الفلسطينيين من إطار مفهوم الشعب الفلسطيني، بعد إزاحة فلسطينيي 48. وكما بينت التجربة، فإن تحول حركة التحرر الفلسطينية إلى سلطة، ورمي ثقلها وراء إقامة دولة في الضفة والقطاع، جعلها مشغولة عن حق العودة للاجئين، بل وعن الاهتمام بأوضاعهم ومشكلاتهم، في البلدان التي يعيشون فيها، سيما أنها اعتبرت نفسها معنية بفلسطينيي الضفة والقطاع، وهذا حتى على حساب منحهم المواطنة أو جواز سفر.
مشاركة :