بعد مضي أكثر من عشرين عاما على صدور روايتها الأولى “إله الأشياء الصغيرة” 1997، تعود الكاتبة والناشطة الحقوقية الهندية أروندهاتي روي إلى عالم الرواية من جديد بروايتها الثانية “وزارة السعادة القصوى” التي ترسم من خلالها صورا مجهولة عن المجتمع الهندي، الذي يعتبر من أكثر المجتمعات ثراء حضاريا وتنوعا إثنيا، لكن هذا التنوع يخفي خلفه عوالم كثيرة تتصارع وتتناحر لأجل الثروة أو الدين أو العرق أو فرض وجودها. تعمل الروائية الهندية الشهيرة أروندهاتي روي في روايتها “وزارة السعادة القصوى” على تأريخ محطات من تاريخ المجتمع الهندي المثقل بالفوضى والطبقية والعنف الطائفي، بطريقة توثيقية وتخيلية مبتكرة، تتعمق من خلالها في ثنايا الطبقات الاجتماعية، لتشرحها وتستعرض ما يعترك فيها من خرافات وأساطير وحكايات. تصف روي في روايتها، الصادرة عن منشورات الكتب خان في القاهرة بترجمة أحمد شافعي، مظاهر الفقر التي تكرس التقسيم الطبقي في البلاد، وتلعب دورا كبيرا في قهر الناس، وكيف أنه ينعكس على حياتهم بطريقة وحشية، وكأنه متواطئ مع الظروف التاريخية والسياسية السابقة والمصاحبة لتعكير آمالهم وتبديد أحلامهم بغد أفضل. لعبة العتبات تشي عتبة الإهداء الذي توجّهه الروائية “إلى مَن لا عزاء لهم” بمسارها في عملها، واستراتيجيتها المتمثلة في الانتصار لأولئك المهمشين المسحوقين الذين لا يجدون من يواسيهم أو يعزيهم، أو يهب لمساعدتهم وانتشالهم من عوزهم وفقرهم وتهميشهم، ومن اللعنات الكارثية التي يبقون سجناء في مستنقعاتها ونزلاء في عتماتها المفروضة عليهم. الظلم يتشابه في أدواته الظلم يتشابه في أدواته تبقي أروندهاتي الإهداء مفتوحا، بحيث يمكن تعميمه على جميع مَن يتماهى مع الحالة التي تمهد لها، وهي تلك التي لا يجد صاحبها أي عزاء أو مساندة، بحيث يكون التهميش لعنته الماضية المستمرة، والفخ الذي يراد له أن يبقى فيه. وفي عتبة الإهداء الثانية تختار جملة قصيرة للشاعر التركي ناظم حكمت يقول فيها “الأمر كله معلق بقلبك..”. ومن المعلوم أن ناظم حكمت عانى من ظلم النظام السياسيّ وقمعه، وقاسى مرارات السجون، لأنه كان ينتصر للفقراء والمهمشين، ويدافع عنهم في شعره ومواقفه الحياتية والسياسية، وكأن روي بذلك تدمج بين المعاناة الإنسانية في أكثر من مكان، وكيف أن الظلم يتشابه في أدواته ويتقاطع في آلياته وتأثيراته ونتائجه المفجعة. بعد ذلك تستوحي حكاية أسطورية، تمارس عبرها نوعا من الترميز والإسقاط، وتحكي كيف أنه في ساعة سحرية تنتزع جيوش الوطاويط أنفسها من شجر التين في المقبرة العتيقة، “لتنداح في المدينة اندياح الطوفان”، وتكمل أنه إذ “ترحل الوطاويط، ترجع الغربان، فلا تملأ بضجيج رجوعها ما تخلف من صمت بعد أن غابت العصافير، وبعد أن محيت من الوجود النسور الهرمة بيضاء الظهور حراس الموتى منذ مئة مليون سنة”. تقفل أروندهاتي الاستهلال السردي بالإشارة إلى أنه لم ينتبه الكثيرون إلى غياب الطيور الهرمة الحبيبة، فما أكثر ما كانت العيون مشدودة إليه، لتشرع نوافذ الحكاية ومعابرها على عالم ثري مؤلم من المآسي والمفارقات الأليمة التي تؤثث فضاء الرواية بفجائع الواقع ولعنات التاريخ التي تظل حاضرة في راهنها وتحمل جمرات الخراب لمستقبلها كذلك. ثم بعد ذلك تختار للفصل الأول عنوانا استفهاميا “إلى أين تذهب الطيور الهرمة؟”، ينفتح بدوره على مسارات حكائية متعددة، تمضي في اتجاهات تبدو مختلفة للوهلة الأولى للقارئ، لكنها لا تلبث أن تتقاطع تاليا وتسير معا في نهر الحكايات مستكملة صورة الرواية فنيا وموضوعيا. تستعيد الراوية أنجم سيرة الاسم، وأن أحدهم أخبرها أن اسمها في الإنجليزية حين يكتب معكوسا فإنه يتحول إلى منجو، وقال إنه في النسخة الإنجليزية من قصة مجنون ليلى يدعى روميو، وليلى تدعى جولييت. ثم يخبرها لاحقا أن اسمها يتحول إلى مجنا، وهو لا يعني شيئا، فردت عليه إن ذلك لا يهم، وهي كل هؤلاء، وأنها ملتقى الجميع ولا أحد، الجميع ولا شيء. تدير أنجم مع الإمام الضرير حواراتها، تتفلسف بدورها وهي تستمع لفلسفاته وتستمتع بحكاياته، وتسأله أن يخبرها أين تذهب الطيور الهرمة لتموت، وهل تسقط على الناس من السماء سقوط الحجارة، وهل يتعثر الناس بجثثها في الشوارع، وهل يعتقد أن الواحد العظيم البصير الذي أنزل البشر في هذه الأرض قد أعد الترتيبات اللازمة لأخذهم. تحكي روي أن أنجم التي ترحل لاحقا عن الخواب، أثارت غيظ الإمام الذي خرج غاضبا، وبدأ ينقر بعصاه على الأرض وسط المقابر، وهي بدورها لم تستوقفه، وعلمت في قرارتها أنه سيرجع، لأنها كانت تعرف الحدة حين تقع عليها عيناها برغم كل أشكال التظاهر والتخفي، وتروي أنها كانت تستشعر بطريقة محسوسة عجيبة أنه بحاجة إلى ظلها بقدر ما هي بحاجة إلى ظله، وكانت تعلم من واقع الخبرة أن في مخزن الحاجة متسعا لقدر لا بأس به من القسوة. صراعات لا تنتهي امرأة تخوض صراعها الخاص (لوحة للفنانة هيلدا حياري) امرأة تخوض صراعها الخاص (لوحة للفنانة هيلدا حياري) تعود أروندهاتي إلى لحظة ولادة أنجم التي ولدت ذات ليلة باردة من يناير على نور قنديل في شاه جهان آباد، أي مدينة دلهي المسورة، وأخطأت القابلة بتحديد جنسها، وظنت بأنها ذكر، ما لاقى هوى وسعادة لدى والديها اللذين كانا ينتظران صبيا لأن لهما ثلاث بنات، وكانا قررا أن يسميا ولدهما آفتاب، واعتبرت أمها جهان آرا تلك الليلة أسعد ليلة في حياتها، لكن الخيبة الكبرى كانت في صباح اليوم التالي، حين اكتشفت أن المولود ليس ذكرا كما ظنت القابلة. تكون الصدمة القاهرة للأم التي تكون ردود فعلها متخبطة، تنفر من وليدها، ثم تنظر إليه لتتأكد أنها غير مخطئة، ثم ارتدت ابتعدت قليلا وهي تنظر إليه، وفكرت في قتل نفسها وطفلتها، ثم بعد ذلك تناولت الطفلة واحتضنتها وهي تسقط في شق بين عالم عرفته وعوالم لم تكن تعرف أن لها وجودا. تحكي أروندهاتي أن هنالك في الهاوية، وبينما تتخبط جهان آرا في دوامة الظلمة، بدا لها كل شيء كانت على يقين منه حتى ذلك الحين، من أصغر الأشياء حتى أكبرها، عديم المعنى، وقالت في قرارتها إن كل شيء إما أن يكون مذكرا أو مؤنثا، رجلا أو امرأة، كل شيء عدا وليدها، وكانت تعلم أن لأمثاله في اللغة الأوردية كلمة تطلق عليهم هي هيجرا، بل كلمتان في الواقع هما هيجرا وكينار، وتستدرك بأنه ما من لغة تقوم على كلمتين اثنتين. سر الطفلة ظلّ يكبر معها ومع أمها التي كانت تتساءل إن كانت الحياة تقوم خارج اللغة، وأن هذا السؤال لم يكشف لها عن نفسه في كلمات، أو حتى في جملة واحدة ناصعة الوضوح، بل تجلى لها في عواء بدائي أخرس.. ثم بعد ذلك قررت أن تتكتم على الأمر إلى حين ولا تطلع أحدا عليه.. وبدأت تفكر في سبل معالجة الوليد، ولجأت إلى الأساليب البدائية كذلك والخرافات المنتشرة عن مداواة تقليدية أو روحانية في المزارات الدينية. ينوس الخطاب الروائي لدى أروندهاتي حين استعراض حياة بطلتها بين الذكورة والأنوثة، حيث تقتفي أثر الطفلة المخبوءة في لبوس الذكر، وتأثيرات ذلك على حياتها الطفولية، وعلى المراحل اللاحقة من حياتها حين بدأت تكبر وتدخل معمعة الحياة التي واجهتها بقسوة وإيلام، وكانت جزءا من تركيبة وحشية لا تبقي ولا تذر. ترمز أروندهاتي إلى التخريب الذي تعممه الصراعات الإثنية والقبلية والحروب الأهلية التي تنشر الكراهيات والعنصريات بين أبناء الجغرافيا الواحدة الذين يجدون أنفسهم ضحايا أحداث تاريخية لا يد لهم فيها، كصراع كشمير، والصراعات التي أنتجها بدوره، ويضطرون لدفع أثمان باهظة من حياتهم وأرواحهم، وهم يجاهدون للبحث عن سعادتهم المنشودة، تلك التي تكون بدورها مضمرة ومخبوءة وكأنها جسد الطفلة المخبوء في ثوب ذكوري مخيب للآمال. تتحدث صاحبة “إله الأشياء الصغيرة” عن ممارسات سلطوية تعمل على تعميم مزيد من الإفقار، والتجهيل، كإغلاق مدارس ومستشفيات ومعامل وتحويلها إلى مقرات للجيش والعصابات المسلحة، وذلك تحت زعم حماية الأمن وتأمين السلام للمواطنين، في حين تكون الغاية هي ترويعهم وبث الرعب في قلوبهم. ومن الجدير بالذكر أن رواية أروندهاتي من الثراء والغنى بحيث يصعب الإلمام بتفاصيلها المثيرة واللافتة التي تبرز جماليات شبه القارة الهندية بتعدد أعراقها وأديانها وألوانها، بالموازاة مع تصوير جوانب من المعتقدات التي ترسم لشرائح كثيرة من أبناء تلك البلاد حياتهم الراهنة والمستقبلية، وتضعهم على خطوط التماس مع الفجائع، أو تلقي بهم في أتونها، فيجدون أنفسهم يكملون حروب الآخرين، ويسهون عن خوض حربهم الخاصة في صياغة سعادتهم المنشودة.
مشاركة :