لكي نكتب نحتاج الجرأة والأغلال | هيثم حسين | صحيفة العرب

  • 6/28/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

درست الكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك علم النفس في جامعة وارسو ولدراستها الجامعية أثر واضح على نتاجها الأدبي، حيث تغوص عميقا في شخصياتها وتفكك من خلالها أكثر الظواهر تعقيدا لتبسطها وتحولها من أفكار مغلقة إلى معادلات بسيطة، وهو ما فعلته في روايتها “رحالة” التي تكشف من خلالها عن أسرار الكتابة. تتخذ أولغا توكارتشوك الحائزة على جائزة نوبل للآداب سنة 2018 من السفر والترحال مرتكزا لروايتها “رحالة” التي تخوض فيها مغامرة البحث عن تفاصيل كثيرة من الحياة التي تكون عالما سحريا من التناقضات التي تتكامل في ما بينها لتختم دائرة الوجود بصيغة أدبية لافتة. تمضي توكارتشوك في روايتها، الصادرة عن منشورات التنوير، وترجمة الحارث النبهان، (القاهرة 2019)، في رحلات مختلفة، منها ما هو في جغرافيات مختلفة متخيّلة، ومنها ما هو في الذاكرة والذكريات والأعماق، حيث تعترك النفس البشرية بكل التناقضات والأفكار والهواجس التي ترسم بدورها شخصية صاحبها بالشكل الذي يتم إخراجها به من قبله، أو ذاك الذي تفرضه عليه بحكم التأثير القوي الجاذب. انطلاق إلى المجهول تستهل توكارتشوك باستنطاق راويتها وهي تبلغ من العمر بضع سنوات، تبوح بهواجسها حيال وجودها، وكيف أن وجودها هو الشيء الوحيد الذي له حدود مميزة بالنسبة إليها، حدود تصفها بأنها ترتعش وتترقرق، وتؤلم، وتذكر أن العالم في رأس الآخر، وأن أول رحلة قامت بها في حياتها كانت عبر الحقول، سيرا على الأقدام، وغابت لفترة قبل أن يتم العثور عليها. تغامر شقيقة شوبان في رحلة محفوفة بالمخاطر لكي تعيد قلبه سرا إلى وارسو بعد موته، وتراها تصف نفسها وهي تقف فوق السد تراقب النهر، تحدق في التيار، تدرك أن الشيء المتحرك، رغم كل المخاطر، يظل دائما أفضل من الشيء المستكين، وأن التغير يظلّ دائما أنبل من الديمومة، وأن الساكن سيتفكك ويتحلل، ويتحول إلى تراب، بينما المتحرك قادر على البقاء إلى أبد الآبدين. تقول الراوية إن والديها لم يكونا من النوع المحب للاستقرار، وأنهما كانا يتحركان من مكان إلى آخر، حتى لبثوا في نهاية المطاف لفترة طويلة نسبيا بالقرب من مدرسة ريفية، بعيدة عن أيّ طريق لائق أو محطة قطارات، ثم أصبح السفر يعني ببساطة اجتياز أخاديد الحقول المحروثة، ودخول البلدة الصغيرة القريبة، والتسوق وإنهاء معاملات في مكتب الحي. تلفت الراوية إلى أن هاجس الترحال يسكن روحها، ويدفعها إلى التحرك من مكان إلى آخر، فلا يكاد يستقر لها المقام في مكان حتى تغامر بالسفر والتنقل إلى آخر، وكأن المكوث في المكان يفرض عليها نوعا من الإقامة الجبرية، أو السجن المفتوح، ويقيّد حركتها وحريتها، وهذا ما يقودها إلى التحرر عبر السفر، والانطلاق إلى المجهول، واكتشاف جماليات الوجود المحجوبة. تقول إنها عملت نادلة، وخادمة في فندق راقٍ، ومربية، وباعت الكتب، والتذاكر، وغنت في مسرح صغير لموسم واحد لكي تعمل في حجرة الملابس، وكانت تقضي شتاءها الطويل وهي تلتمس الدفء في الكوابيس وسط أزياء ثقيلة وأردية حريرية، وشعور رأس مستعارة، وأنها حين أتمت دراساتها، عملت مدرسة، ومستشارة لإعادة التأهيل، ثم عملت أخيرا في مكتبة، وكلما استطاعت توفير أيّ قدر من النقود، كانت تمضي في طريقها من جديد. وتشير إلى أن ما تعلمته في الجامعة هو أنها مجبولة على دفاعات، من تروس ودروع، وأن الإنسان مدينة لا يتكون معمارها في جوهره إلا من جدران، متاريس، معاقل، تطلق عليها توصيف دول خندقية. وتذكر أنها لم تمارس الصنعة التي تمرنت عليها طويلا، وأنها أثناء إحدى رحلاتها الاستكشافية، عندما علقت في مدينة كبيرة بلا نقود وصارت تعمل خادمة، شرعت في تأليف كتاب، كان قصة للمسافرين الغرض منها أن تقرأ في القطار، كتاب أشبه بوجبة خفيفة تستطيع ابتلاعه دفعة واحدة. تعترف أن سجل سفرياتها سيكون سجلا لعلة مرضية، وأنها تعاني من متلازمة يمكن العثور عليها بسهولة في أطلس المتلازمات السريرية تزداد وتيرتها بشكل أكبر وأكبر، وتتساءل من يجرؤ على وصف الناس كوحدات متكاملة، من الناحية الموضوعية والعمومية على حد سواء، ومن سيوظف فكرة الشخصية بقناعة راسخة، وسيراكمها فوق بعضها بعضا ليخرج بأنماط مقنعة؟ وتعبر في الوقت عينه عن ظنها بأن فكرة متلازمة الأمراض تناسب ما تسميه بعلم نفس السفر مثلما يناسب القفاز اليد. تصف عملية كتابة الرواية بأنها شاقة، وتقول بأن أيّ شخص سبق وحاول كتابة رواية يعرف أنها مهمة مضنية، بل وإحدى أسوأ طرق شغل الوقت، وأن على المرء أن يبقى داخل نفسه طوال الوقت، في حبس انفرادي. وذلك من منطلق التأكيد على حجم الجهد والصبر الذي تحتاجه الرواية من صاحبها. وتعرف الكتابة بأنها ذهان تحت السيطرة، بارانويا وسواسية لا تعمل إلا بعد تقييدها بالأغلال، ليس لها أيّ علاقة بريشات الكتابة ولا بحمالات أرداف الفساتين، ولا بالأقنعة التنكرية البهيجة التي يقرنها الناس بها عادة، بل هي مسربلة بمريلة جزار ومنتعلة حذاء مطاطيا، وفي يدها سكين لنزع الأحشاء. تسرد الراوية أنها تعلمت الكتابة في القطارات والفنادق وقاعات الانتظار، على طاولات المقاعد في الطائرات، تسجل ملاحظات على الغداء، تحت الطاولة أو في الحمام، تكتب في كل مكان وزمان، تخربش الأشياء على قطع ممزقة من الورق، وغير ذلك من العادات اليومية التي شكل عالمها الكتابي الغرائبي. تورد الروائية حكايات مختلفة لمسافرين تجمع بينهم محطات مؤقتة، أو رحلات متقاطعة، فيبوحون لبعضهم البعض بقصصهم وأسرارهم، ينفضون من خلالها عن أنفسهم عناء السفر، ويزينون أوقاتهم بمتعة التخفف مما قد يقض مضاجعهم، يتحدثون ويكشفون ما يعتمل في أفئدتهم ونفوسهم بعيدا عن أيّ سلطة رقابية، أو شعور بالانكشاف أو فضح الذات أو تعريتها أمام الآخر الذي قد يستغل تلك الأسرار والحكايات كأوراق ضغط عليهم لاحقا. توصي بالقول يا مواطني العالم أمسكوا الأقلام، وتحكي بعدها قصة ياسمين؛ المرأة المسلمة التي قضت أمسية بأكملها تتكلم معها، وكانت تخبرها عن مشروعها، وكيف أنها أرادت تشجيع كل شخص في بلدها على كتابة كتب، وكانت قد لاحظت أن المرء لا يحتاج إلى الكثير ليكتب كتابا، فقط بعض الوقت وكثير من الجرأة، وتستذكر أنها صرحت لها بأنها تحب فكرة أن يقرأ المرء الكتب كالتزام أخلاقي أخوي تجاه أهله. تختار توكارتشوك لوحات وصورا تستخدمها كعتبات نصية تمهد بها لفصولها، وتراها بعد ذلك تنتقل من فصل إلى آخر، كل مرة برفقة شخصية مختلفة، وحكاية جديدة، ترتحل عبر الأزمنة، تجول العالم ذهابا وإيابا، تظهر أن السفر غزو رائع للعالم، واكتشاف جمالي ساحر لإحداثيات الوجود وأسراره، وأن المسافر وحده يدرك كيف يستمتع بلذائذ الترحال ومحطات التوقف والاستراحة والتجوال. تشدد توكارتشوك على السحر الذي يضفيه الرحيل على روح الراحل وكيانه، وكيف أن الإنسان رحالة بالفطرة، وأن الحركة الدائبة تحمل الجمال والمعرفة والاكتشاف والعلم والتجدد لصاحبها، وأن العالم يكشف للرحالة عن كنوزه المخبوءة خلف الأسوار البعيدة التي يطويها بتنقلاته واكتشافاته المتجددة.

مشاركة :