القصة الومضة عند حسن البطران تكشف عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين • #صحيفة_الرؤية_الدولية

  • 6/1/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بدأ التأسيس للقصة القصيرة جدا ، اصطلاحيا، فيالأدب الغربي، ابتداء من أوائل العقد الأخير من القرنالعشرين، وإن كان لهذا الشكل جذور قديمة تعود إلى«خرافات إيسوب» وإلى «جولستان» لسعدي الشيرازي،كما كان له إرهاصات إبداعية لاحت في بعض الأعماللكتاب القصة القصيرة (الكلاسيكية): أو. هنري، وكافكا،وهيمنغواي، وخوليو كورتاثار، وآرثر كلارك، ورايبرادبري، وفريدريك براون، وليديا ديفيز. ويرى الدكتور حسين حمودة أن هناك ما يصل بين القصةالقصيرة والقصة الومضة، وهناك من يلتمسون عناصرأساسية من القصة القصيرة لا تزال قائمة في القصةالومضة. لكن في القصة الومضة ما يميزها على مستوىعدد الكلمات، والأهم على مستوى طريقة الكتابة التيتنهض على التلميحات الخفية، والاستناد إلى ما لم يكتبفي النص وليس على ما يتضمنه النص، بالإضافة إلى(طريقة الوصل) بين الجمل، التي تجعل القصة الومضة،أيا كانت مساحتها، أشبه بجملة واحدة». وقد شاع هذا الجنس الأدبي في بلدان عربية عدة، منهاسوريا وفلسطين، ومصر، و المغرب واللافت أن الكتابالذين خاضوا الكتابة، في الأدب العربي، عبر هذا الشكلانتموا إلى أجيال متعددة؛ فإلى جانب اسم نجيب محفوظالذي كتب في هذا الشكل، فترة الثمانينات، عمله (رأيتفيما يرى النائم)، ثم كتب نصه (أصداء السيرة الذاتية) في فترة التسعينات، ثم كتب عمله الأخير (أحلام فترةالنقاهة) في بدايات هذه الألفية، نجد أيضا اسم زكرياتامر (في أكثر من مجموعة له)، كما نجد أسماء تنتميإلى تجارب وأجيال متنوعة، منها من فلسطين: فاروقمواسى، ومحمود شقير، ومن سوريا: عزت السيد أحمد،وانتصار بعلة، ومحمد منصور، وإبراهيم خريط، وفوزيةالمرعي، ومن المغرب: حسن برطال، وعبد الله المتقي،وفاطمة بوزيان، ومن تونس: إبراهيم درغوثي.. إلخ، وفيالعقد الأخير، في مصر، برزت أسماء كثيرة جدا لمبدعينومبدعات كان اهتمامهن واهتمامهم الأساسي بالكتابةفي هذا الشكل: القصة الومضة أو القصة القصيرةجدا». وفي السعودية برز بقوة القاص حسن البطران في هذا الحقل حيث أصدر مجموعة ” ناهدات ديسمبر” ويحرص البطران على خوض تجربته الإبداعية في جسارة لافتة من وعي يختلط فيه الحلم بالكابوس لكنه وعي لا يتوقف عن التجريب.ويكشف عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين.وهو أول قاص سعودي وخليجي يصدر أربع مجموعات في القصة القصيرة جدا. وهذه المجموعة التي بين يدينا كتب ” ناهدات ديسمبر” وهي مجموعة ناتجة عن تراكمثقافي ، تُواكب الحادثَ، وتنهل منه، وتنطلق من أصلٍ، منتراثٍ، من عادات، من قيم، من أساطير، من حركة مجتمعيصبو إلى الانطلاق في توازن لافت. وجاءت المجموعة في أسلوب سردي رائق،ولغة شعرية تصويرية .فالقصص تحلق في فضاء رمزي،وتدعو إلى التفكير والتعمق والنظر.في قصة ” سلمى” أول قصص المجموعة قرر الكاتب تأنيث الفضاء السردي، المفعم بعطر سلمى والماهرة في العزف على البيانو،ويقتفي أثر أصابعها على البيانو ولكنه يفجع باغتيالها على يد الجهات الأمنية في الجمعة الأخيرة من شهر مارس. ويستمر الكاتب في تأنيث الفضاء السردي في قصة” جنازة” ( جمعت رفقاءها .. وصفقت خلف جنازته الخضراء” حيث ضبط الإطار المكاني،فهناك احتفاء بالموت وفي نفس الوقت تغيب صورة الآخر في القصة مما يفتح الباب أمام العديد من التأويلات ، هل الاحتفاء نوع من التكريم والوداع لروعة الحب التي توجت بالرحيل أم من الشماتة لرحيله بسبب جبروته وتسلطه . وفي قصة” طاقة خفية” يرصد الكاتب نقطة تحول بطل القصة الذي شهد لحظات قدرية غيرت مجرى حياته،وحسمت معركة في عقله بين افكاره وسلوكه، وكانت نقطةتحول في سماء ماضيه، وذكرى لا تنسى، ولحظة سريةقلبت حياته رأسا على عقب( لا يتورع في قضاء حاجته..يٌنظر إليه كحيوان أليف..تزوج وزادت وحشية غرائزه..وأصبح إماما). فكأن قرار الزواج نقله من عالم الحيوان المستأنس إلى عالم البشر الذي ارتقى في مدارج الروحانية والصوفية فأصبح إماما. وفي قصة” حنين” التي تتناول الحب المستحيل،( يحن إليها .. ترفضه .. يساهر الليل يخيط ملابسه الممزقة)فهناك تناص في القصة مع قصة ” بينيلوبي” زوجة ملك إيثاكا في “الاوديسة” ملحمة هوميروس.علىعكس مثال الزوجات الخائنات العابثات فإن بينيلوبي هيمثال الزوجة الوفية لزوجها، التي تنتظر عودة زوجها الملكأوديسيوس رغم غيابه سنين طويلة مبحراً وراء مغامراتهوحروبه بعد أن طلب منه المشاركة في حرب طروادة..ظلتبينيلوبي ترفض الخاطبين وتحتال عليهم لمدة عشرين سنةهي فترة غياب زوجها، إحدى تلك الحيل ادعاؤها بأنهاستنسج كفناً لوالد زوجها المسن ليرتس وأنها ستختارزوجاً لها بمجرد انتهاءها من الحياكة. فكانت كل ليلة ولمدةثلاث سنوات تنقض ليلاً ما كانت تغزله نهاراً إلى أناكتشفوا أمرها. كل كاتب مبدع لا يتميز من بين الكتاب الآخرين إلابالخصوصية والنوعية، وهما يرتبطان كل الارتباطبخصوصية العوالم، وبنوعية تصويغ الكتابة لهذه العوالم،من خلال طرائق السرد، والاشتغال على الحبكةالقصصية، ولغة الكتابة، والأٍسلوب، والصور التعبيرية. بذلك وبغيره يصنع الكاتب القاص ما يميز كتابتهالقصصية عما يكتبه القُصَّاصُ الآخرون. وهو أيضا، شأن الشعراء والروائيين وكتاب المسرحيات،بل هو شأن كل المبدعين والفنانين الذين يمهرون أعمالهمبالمظاهر المضمونية والخواص الجمالية التي توفرلأعمالهم طابعها الخاص المميز، وسماتها الخاصة،وعبقها الذي هو عبق الإبداع. أعتقد أن أعمال القاص السعودي حسن البطران لا تخرجعن هذا المنحى، فهي بعيدة عن التقليد، ضاربة في بناءخصوصيتها الدلالية والجمالية. إن كتاباته القصصية،تطفح، في مشترك حميم بينها، رغم تنويع العوالموالفضاءات، بما يوحي بأن الكاتب وتجربته في الحياةهي المرجع الذي ترجع إليه مضامين القصص. لكنالقاص لا يحكي تجارب معيشة إلا وهو يدفع بها نحودروب التخييل، كما أنه يبني القصة على تجربة بطلتتشابه الكثير من ملامحه، بينما لحظات المعيش،والمتذكر، هي التي تُنَوِّعُ عوالم القصص، وتجعل منالقصة حدا مفارقا مع القصص الأخرى. يستحضر حسن البطران عند كتابته نوعية ونظام المنظومةالذهنية لكتابة النص القصصي،لأنه أعتمد على الجملةوالصياغة الرصينة،وعلى أقل الكلمات عدداً وأكثرها عمقاًرغبة منه في الحصول على أعلى قدرة من متعة القراءةلقرّائه من خلال إيجاد مساحة واسعة لحركة الرموزوالدلالات المحفزة،لكي يبقى محافظاً على الإبداع فنياًوتقنياً،ففي قصة ” جفاف قلم” يعبر عن حالة العجز التي أصابت البطل فحاول التنفيس عن هذه الانهزامية فلجأ إلى القلم ولكن القلم لم يطاوعه أيضا،ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد انتقل الحزن إلى القمر فأصابه الخسوف هو الآخر تجاوبا مع حالة العجز التي يعانيها البطل(أمسك قلمه ليكتب، لم يستطع ..حاول الكتابة.. القمر أصابه خسوف). وقصص البطران مطبوعة بأسلوب شعري ،أو هي شعر باسلوب قصصي كبير،لأنه كاتب متمكن في حقل القصةالقصيرة جداً ومازج بينها وبين الشعر وبالعكس،مثلتزاوج الخط الكوفي مع الزخرفة .ففي قصة” وصف” جعل من الحبيبة المعادل الموضوعي للقمر في حال غيابه ( القمر غاب .. ولكن ..أنا موجودة .. هكذا هي قالت)، لقد استطاع حسن البطران توظيف المفردات في تحريك الحدث،حينما نأى عن الشعرية إلى السردية الومضية. وفي قصة” نظرة” تختزل مكانة الأب لديها في العيد بمجرد تبادل النظرات بينهما( نظرت الطفلة في وجه أبيها،وأصبح العيد عندها أكبر من العيد) إن وجود الأبفي حياة الأبناء، يعني الحماية والرعاية، يعني القدوةوالسلطة والتكامل الأسري، فالأبناء بحاجة إلى أنيشعروا بأن هناك حماية ورعاية وإرشاداً يختلف نوعاً ماعما يجدونه عند الأم، وبأن الأب هو الراعي الأساسيللأسرة، وهو المسؤول عن رعيته، فوجود الأب كمعلم فيحياة الطفل، يعتبر من العوامل الضرورية في تربيتهوإعداده. وفي قصة” ضوء من بئر” تناقش قضية الانفصام بين ما يكتبه الأديب،وحياته الشخصية ( تخفى وراء مقالاته .. لا يرى إلا نزف قلمه ..حينما سئل .. أجاب : شكلي قبيح ورائحتي كريهةّ! ..أما قلمي فهو ضياء وفلسفة).فيقول الكاتب المسرحي الكبير إبسن ( 1828- 1906) “إننا معشر البشر مخلوقات ممتدة النظر من الناحية الروحية،نرى الأشياء أكثر وضوحاً على بعد.فالتفاصيل تربكنا،وعلينا أن نبتعد عما نريد أن نصدر فيه حكمنا،فخير وصف للشتاء إنما يقدمه المرء في الصيف”. ولا شك أن فكرة” إبسن” هي فكرة صحيحة،فالاقراب الشديد من الأشياء يفسد معرفتنا بهاواستفادتنا منها.فلو اقتربنا من النار أكثر من اللازم فإنها تلسعنا أو تحرقنا بدلا من أن تقدم إلينا الدفء الجميل،ولو اقتربنا من النور أكثر من اللازم فإن عيوننا تعجز عن الرؤية ويصيبها اضطراب شديد في النظر إلى الأشياء.وهذا الكلام ينطبق على العلاقات الإنسانية أيضاً مثل الحب والصداقة وغيرهما من العلاقات التي تربط البشر بعضهم ببعض.فلابد من الحرص الشديد هنا أيضاً على وجود مسافة بين الناس تحفظ لكل إنسان استقلاله،أما الإنسان الذي يقترب من صديقه أو حبيبه اقترابا يصل إلى حد” الالتصاق” ويحرص على معرفة التفاصيل ويغرق فيها فإنه يصبح عبئا لا يطاق،ولابد أن ينتهي بفقدان الصداقة والحب وغيرهما من العلاقات الإنسانية الحميمة. ولعل حسن البطران قد قرأ قصة ” العبقري الملعون” للكاتب الإيطالي “جيوفاني بابيني”وبطلها شخص كان يحب كاتبا فنانا من خلال قراءاته لقصصه الجميلة وكان يقول عن نفسه:” كنت أحب هذا الأديب ،وكنت متشبعا بكلامه وأفكاره ،حتى أخذت أحلم أحلامه وأغني أغانيه وأتابع تيارات تفكيره وأتمثل نفسي أحد أبطال قصصه.. فقرر أن يزوره لأنه يعتبره أعظم رجل أنجبته أوروبا. فماذا وجد؟ ” شعرت بخيبة أمل عندما وقع نظري على غرفة ذلك الأديب الذي أعشقه،وكانت غرفة عادية لم تكن تختلف عن سائر الغرف المألوفة،وكنت أتخيل أن كاتبي المفضل يعيش في صومعة قديس أو عرين أسد ،لا في مكتب لأحد المحامين .. رأيت أمامي رجلا ضئيلا في حوالي الخمسين يحييني بلغة فرنسية صحيحة فارتعدت لمرآه .أيعقل أن يكون هذا هو رجل أحلامي؟!.. هذا الرجل الضئيل الذي يرمقني بعينين صغيرتين وتنفرج شفتاه عن ابتسامة هي أقرب إلى ابتسامات البلهاء والسذج؟ أيعقل أن يكون نجم أحلامي هو هذا الرجل الذي يرتدي ثوبا أسود ويضع يديه في جيبيه كما يصنع ضابط أو موظف على المعاش؟ هل هذا هو الرجل الذي جعل قلبي يخفق بروعة آثاره وقوة أسلوبه؟ ولم أستطع أن أخفي دهشتي فقلت: أأنت الكاتب الذي كتب” نفسي” و” الله” و” مشاكل نصف الليل”؟فأجابني في هدوء وابتسام: نعم . وكأنه لم يشعر أنني أهنته بسؤالي فدعاني إلى الجلوس وسألني حاجتي”. ويشكل الموت والكتابة عن الطفولة والعوالم الأولى متكأأساسياً في مشروع حسن البطران الإبداعي حيث يمزجفيه الواقعي بالخيالي لتخرج لنا الحكايات محملة بأحوالالبشر على اختلاف طبقاتهم.

مشاركة :