مراجعات أدبية.. الشعر بين الثقافة الفنية والموهبة الفردية

  • 6/2/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

صوت يهمس في أذني يقول: ما أحوج الشاعر العربي، وبالذات الشاعر الذي لم تبلغ أعماله مرحلة الرشد بعد، ما أحوجه إلى وقفات يراجع فيها تلك الأعمال التي لا تشعر أبدًا وأنت تقرؤها برائحة الشعر، فما أحوجه إلى وقفة شجاعة.. جون بريستلي الروائي البريطاني اسم له دلالة في التاريخ الأدبي الحديث، فقد كان بريستلي ذا حس روائي وبالذات بعد تأليفه رواية (الرفاق الطيبون) التي على إثرها دق أبواب السيادة الأدبية. نالت رواية (الرفاق الطيبون) ثناء علنيًا حسنًا وتبوأت شعبية واسعة بوصفها الشكل الفني الأكثر طواعية ومرونة لإعادة تصوير الإنسان تصويرًا فنيًا والذي كان -ذاك الوقت- يمثل نزعة فنية، وبرغم أن بريستلي ذو نزعة اشتراكية، وذلك بسبب ظهور كتاباته في "النيوسينمان" وهي مجلة ذات اتجاه يساري صنف في خانة اليسار برغم أن الرجل في كتاباته وأحاديثه الإذاعية ومسرحياته أبعد ما يكون عن أفكار اليسار إلا أن بريستلي اتجه بأعماله إلى الطبقات الفقيرة، وتعامل في رواياته مع المعدمين ساكني الأحياء الشعبية، فقد حسب على اليسار البريطاني. كان بريستلي أول ما ظهر في بدايات شبابه شاعرًا يحسن توظيف اللغة توظيفًا حسنًا ظهر له في ذلك الوقت مجموعة (أمير القوافي)، ولكنه حين شب عن الطوق أدرك أن تلك الأشعار التي كان يكتبها مجرد ألفاظ باهتة وسقيمة، فجاء على كل أشعاره التي كتبها فأحالها إلى كومة من رماد. صوت يهمس في أذني يقول: ما أحوج الشاعر العربي، وبالذات الشاعر الذي لم تبلغ أعماله مرحلة الرشد بعد، ما أحوجه إلى وقفات يراجع فيها تلك الأعمال التي لا تشعر أبدًا وأنت تقرؤها برائحة الشعر فما أحوجه إلى وقفة شجاعة.. فالشعر لا يمكن أن يُتَعلم في المدرسة، فبدون موهبة لن يصير أحد شاعرًا ربما يتقن التكنيك فيصير ناظمًا ماهرًا، ولكن لن يصير شاعرًا أبدًا. وإن كان تطور الثقافة الفنية أوجد وسائل تعبيرية، ووسع من ثقافة الشاعر فإذا ما نظرنا إلى الشاعر الفرنسي نيكولا بوالو، وبرغم أنه بدأ حياته شاعرًا إلا أنه يفتقر إلى الموهبة والرشاقة، وإن كان يعد في طليعة النقاد والأدباء الأوربيين إلا أنه، وظف الثقافة الفنية في صياغة القصيدة الشعرية، وإن كان هذا الحكم يصعب تعميمه على كل الشعراء.. إلا أن التنافر الحاد ما بين الشعر واللا شعر حسمته الموهبة الفردية التي انتصرت للشاعر الملهم، فالشعر الحقيقي تتملكه الصفات والخصائص التي تمكنه من الخلود. ولذلك فكلما تقدم الزمن فإن القصائد الخطابية لا تصمد أمام الواقع لافتقارها إلى الحس الشعري افتقارًا تامًا، فواجب الشعر أن يمتع، وهذا مبدأ جوهري وبالذات عندما تستند القصيدة على طابع فني بحت. ولكن أمام الفراغ الإبداعي لجأ بعض الشعراء على مستوى العالم إلى الرمزية أو أنها اجتذبتهم ووضعتهم في دائرة من المشاعر والأحاسيس الذاتية كالشاعر بول فرنكلن ومالارميه، فعندما توقف نبض الإبداع عندهما استخدما الرمز الفني، وذلك عن طريق الاستعانة بالرموز وتوسيع دائرة الغموض، وقد لاحظ النقاد أن التعبير الغامض قد استشرى بصورة كبيرة في الشعر الحديث، ولكن هذا التوجه انتهى بالشعر إلى طريق مسدود وقوضت أسس الشعر لضآلة قيمته الجمالية، ولأنه لا ينطوي على أي معنى فهو منهج جديد لبناء القصيدة المصطنعة المتفككة والمبهرجة، وهذا يقطع الصلة بالإبداع الفردي، ولذلك لم تستطع الرمزية -كما يقول د. جميل نصيف- أن تطرح نفسها بعد بوصفها تيارًا أدبيًا منظمًا كما لم تمتلك بعد أساساً جماليًا استيتيكيًا محددًا. في بداية عقد السبعينيات لاحظ الباحثون في هذا الشعر الرمزي ميلًا إلى تصوير الواقع تصويرًا مباشرًا مع كل التناقضات التي يعاني منها، وإلى التغلغل في مجالات عدة في السابق غير جديرة بالشعر، ولذلك زاد من صعوبة النزعة الرمزية تداخلها مع النزعة الانطباعية، وتعارضها معها في وقت واحد، حيث يرى أرنولد هاوزر انطباعية في مؤثراتها البصرية والسمعية، وفي مزاجها وجمعها بين مختلف المعطيات الحسية وتحقيقها تأثيرًا متبادلًا بين مختلف الأنواع الفنية. ولكن يظل لكل فنان أداته الخاصة التي يعبر بها عن عالمه المتفرد، وحرية الشاعر في اختيار أداته وحرية الناقد في تقييم التجربة الفنية، فالنقد المستنير يصنع الأدب المستنير.

مشاركة :