الشعر لا يمكن أن يتعلم في المدرسة؛ فبدون موهبة لن يكون أحد شاعرًا، ربما يتقن التكنيك فيصير ناظمًا ولكن لن يصير شاعرًا.. فالشعر الحقيقي تتملكه الصفات والخصائص التي تمكنه من الخلود.. وأمام هذا الفراغ الإبداعي لجأ الشعراء إلى ثلاثة خيارات أمام المسألة الشعرية: القصيدة الخطابية، الرمزية، التوقف عن الشعر.. مع بداية عقد السبعينيات الميلادية لاحظ النقاد وجود تنافر ما بين الشعر واللا شعر والذي في النهاية حسمته الموهبة الفردية التي انتصرت للشاعر الموهوب.. فالشعر لا يمكن أن يتعلم في المدرسة فبدون موهبة لن يكون أحد شاعرًا، ربما يتقن التكنيك فيصير ناظمًا ولكن لن يصير شاعرًا.. فالشعر الحقيقي تتملكه الصفات والخصائص التي تمكنه من الخلود.. وأمام هذا الفراغ الإبداعي لجأ الشعراء إلى ثلاثة خيارات أمام المسألة الشعرية: الخيار الأول: القصيدة الخطابية التي لا تصمد أمام الواقع لافتقارها إلى الحس الشعري افتقارًا تامًا فواجب الشعر أن يمتع وهذا مبدأ جوهري وبالذات عندما تستند القصيدة على طابع فني بحت. الخيار الثاني: الرمزية التي أدخلت الشاعر في دائرة المشاعر والأحاسيس الذاتية (الضبابية) كالشاعر بول فرنكلن ومالارميه، فعندما توقف نبض الإبداع عندهما استخدما الرمز الفني، وذلك عن طريق الاستعانة بالرموز وتوسيع دائرة الغموض.. ومن جراء ذلك استشرى التعبير الغامض بصورة كبيرة، ولكن هذا التوجه انتهى بالشعر إلى طريق مسدود لضآلة قيمته الجمالية، ولأنه لا ينطوي على أي معنى فهو منهج جديد لبناء القصيدة المصطنعة والمفككة والمبهرجة، وهذا عادة ما يقطع الصلة بالإبداع الفردي، ولذلك لم تستطع الرمزية -كما يقول د. جميل نصيف- أن تطرح نفسها بوصفها تيارًا أدبيًا منظمًا كما لم تمتلك بعداً جماليًا فنيًا محددًا.. وقد لاحظ النقاد في الشعر الرمزي ميلًا إلى تصوير الواقع تصويرًا مشوهاً ومتناقضاً، وإلى الدخول في مجالات لاصلة لها بالشعر. الخيار الثالث: التوقف عن الشعر كما حصل مع الروائي والشاعر البريطاني جون بريستلي، فقد كان بريستلي ذا حس روائي وبالذات بعد تأليفه رواية (الرفاق الطيبون) والتي على إثرها دق أبواب السيادة الأدبية. نالت رواية (الرفاق الطيبون) ثناء علنيًا حسنًا وتبوأت شعبية واسعة بوصفها الشكل الفني الأكثر طواعية ومرونة لإعادة تصوير الإنسان تصويرًا فنيًا، وبرغم أن بريستلي ذو نزعة اشتراكية، وذلك بسبب ظهور كتاباته في "النيوسينمان" وهي مجلة ذات اتجاه يساري صنف في خانة اليسار برغم أن الرجل في كتاباته وأحاديثه الإذاعية ومسرحياته أبعد ما يكون عن أفكار اليسار إلا أن بريستلي اتجه بأعماله إلى الطبقات الفقيرة، وتعامل في رواياته مع المعدمين ساكني الأحياء الشعبية، لذلك حسب على اليسار البريطاني.. ولكن ما يعنينا الآن أن بريستلي كان في بدايات شبابه شاعرًا يحسن توظيف اللغة توظيفًا حسنًا ظهر له في ذلك الوقت مجموعة (أمير القوافي)، ولكنه حين شب عن الطوق أدرك أن تلك الأشعار التي كان يكتبها مجرد ألفاظ باهتة وسقيمة وميتة؛ فجاء على كل أشعاره التي كتبها فأحالها إلى كومة من رماد. وإن كان تطور الثقافة الفنية -على حد رأي د. جميل نصيف- أوجد وسائل تعبيرية، ووسع من ثقافة الشاعر فإذا ما نظرنا إلى الشاعر الفرنسي نيكولا بوالو، وبرغم أنه بدأ حياته شاعرًا إلا أنه يفتقر إلى الموهبة والرشاقة وإلى البساطة والعفوية وإلى الموهبة الغنائية لقد رأى النقاد فيه شاعرًا جافًا.. أما معاصروه والأجيال التي تعاقبت بعدهم فقد قوموه بالدرجة الأولى بوصفه ناقدًا استعمل الشكل الشعري لصياغة وجهات نظره الجمالية والأدبية. لقد حاز بوالو على شهرة عالمية ودخل تاريخ الأدب بوصفه مشرعًا للمذهب الكلاسيكي الفرنسي، لقد بدا اسمه في نظرة الأجيال التالية رمزًا من نوعه للثقافة الشعرية ولكنه أصبح هدفًا طبيعيًا للهجوم من جانب التنويريين في القرن الثامن عشر ثم بعد ذلك من جانب الرومانتيكيين الذين بدت لهم كتابات بوالو تجسيدًا للرتابة الميتة والنزعة الروتينية التي تقتل كل شعر حقيقي وأصيل، أما الآن فتعد مثل هذه النظرة إلى بوالو مغرضة إلى حد بعيد من الناحية التاريخية. لقد نظر البعض إلى بوالو بحق على أنه الزعيم الأدبي لفرنسا في واحدة من أعظم مراحل تاريخها الأدبي. إذ لم يكن فقط مبشراً بالرتابة والنزعة الروتينية في الشعر، بل مضطهدا لهذا النوع من الشعر، ومدافعًا عن التيارات الفكرية التقدمية في الأدب الفرنسي خلال القرن السابع عشر. وشأن غالبية الكتاب الفرنسيين، آنذاك لم يكن أمام بوالو إلا أن يتعرف على صالون أوتيل رامبو ليه، ومع ذلك فلم يحقق بوالو هناك أي نجاح يذكر، على العكس، فقد أقنع أن يجرب قلمه في نوع آخر من الشعر، يكون أقرب إلى أذواق الناس إلا أنه لم يأخذ بهذه النصيحة، ولم يظهر بعد ذلك بين رواد هذا الصالون الأدبي، والأكثر من ذلك، فإنه سرعان ما بدأ يهاجم بصورة منتظمة الشعراء المتنفذين هناك، ولقد وجد مؤازرة في مسعاه، هذا من جانب عدد من الأدباء، منهم موليير وراسين ولافوتنين فقد كانت علاقته مع راسين وطيدة بنوع خاص، ولقد ارتبط بعلاقات وطيدة منذ شبابه مع عدد من الأدباء الذين يكبرونه سنًا ومع ذلك فقد حاز على إعجابهم رغم صغر سنه، وذلك بفضل حدة ذهنه النقدي. لقد جمعه بهؤلاء الأدباء كرههم جميعًا لجميع أشكال التصنع والتكلف، والزيف. ولكن على أي حال يظل لكل فنان اداته الخاصة التي يعبر بها عن عالمه المتفرد وحرية الشاعر في اختيار أداته وحرية الناقد في تقييم التجربة الفنية.
مشاركة :