تعكس الظروف المعيشية القاسية، التي باتت تعاني منها معظم الأسر اللبنانية أن الدولة التي كانت تفخر بتاريخها في مجال التجارة بدأت تنهار، ما جعل السيطرة على مستويات الفقر أمرا مستحيلا في ظل الارتباك في إدارة أسوأ أزمة تمر بها البلاد على الإطلاق. طرابلس (لبنان) - قادت حملة لمساعدة السكان في أحياء طرابلس اللبنانية إلى الوقوف على حجم معاناة سكان المدينة جراء تداعيات الأزمة الاقتصادية وتبعات الوباء التي عمقت مشاكلهم بشكل أكثر مما هو متوقع. وأشارت مجلة فورين بوليسي الأميركية في تقرير حديث إلى أن الطبقة المتوسطى في البلاد “ماتت” وأن مستويات الفقر لم يعد بالإمكان السيطرة عليها. وتخفي طرابلس، ثاني أكبر مدن البلاد، خلف جدران مبانيها العشرات من الأسر التي تحتاج إلى مساعدات مالية طارئة بعد أن جعلتها الأزمات المتواترة تغرق في حفرة الفقر، الذي يبدو أنه استشرى بوتيرة متسارعة. وشكل الارتفاع الكبير في الأسعار وشح السيولة وانخفاض قيمة الليرة بنحو 60 في المئة منذ تفجر الاحتجاجات في أكتوبر الماضي، والإغلاق الاقتصادي، جدارا عازلا أمام حصول سكان المدينة على أبسط مقومات الحياة. وفي مؤشر على ما يعيشه مواطنو طرابلس من مصاعب مادية، بات أصحاب محلات البقالة والصيادلة في معظم أنحاء المدينة يمتلكون العشرات أو المئات من الفواتير المفتوحة لأسر لم تعد قادرة على سداد ما عليها من ديون. في طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، الأسر بحاجة إلى مساعدات طارئة بعد أن تجاوزت الخطوط الحمر للفقر وتعطي انطباعات منظمة سانوبيل إيد المحلية، التي تتكفل بتوزيع مبالغ مالية تتراوح ما بين 350 و500 دولار على سكان المدينة كان قد تبرع بها مغتربون لبنانيون، لمحة عن مدى ما وصلت إليه حالة المواطنين من بؤس. وتؤكد هالة كبارة، الناشطة في المنظمة، ومقرها طرابلس، أن الطبقة المتوسطة لم تكن غنية ولكنها تمكنت من دفع إيجار المنزل وإرسال أطفالها إلى مدارس لائقة. لكن الأمر أكثر صعوبة الآن. ونقلت فورين بوليسي عن كبارة قولها “لقد قدمنا المال لنحو مئة من النساء، لكنهن كن يخجلن منه. أحدهن بكت فور استلامها للمال وشكرتنا“. ولدى مديرة المنظمة غير الحكومية فداء جندي حجة قناعة على ما يبدو بأن الأزمة تسحق الفقراء، لكنها تضر أيضا بالطبقات المتوسطة. وقالت “من الصعب رؤية ذلك التأثير ولكن سمعناه بوضوح عبر غضب المتظاهرين الذين حاصروا ساحات المدينة حتى وسط حظر فايروس كورونا”. وأضافت “لم تعد هناك طبقة متوسطة… هناك مجموعات منخفضة الدخل تكافح من أجل تغطية نفقاتها. يمكنك أن ترى الرجال العاطلين يتسكعون في كل مكان تذهب إليه”. روي بدارو: 65 في المئة من اللبنانيين كانوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة روي بدارو: 65 في المئة من اللبنانيين كانوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة وحافظ لبنان، وهو أرض البحارة والتجار على سواحل المتوسط، على نفسه كدولة ذات دخل متوسط في العصر الحديث. لكن الدولة التي سعت حتى الآن للحصول على مساعدة دولية لحوالي مليوني لاجئ سوري وفلسطيني تجد الآن أن 75 في المئة من شعبها بحاجة إلى المساعدة. وكان معظم هؤلاء من الطبقة المتوسطى ولديهم ما يكفي لشراء الخبز، على عكس فئات الدخل الأقل، لكنهم اليوم يفتقرون إلى المال الكافي لدفع فواتير الهاتف وشراء الوقود وغير ذلك من الضروريات اليومية. ويؤكد الخبير الاقتصادي اللبناني روي بدارو أن 65 في المئة من اللبنانيين كانوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة حتى وقت قريب. لكن البنية الطبقية انهارت بوتيرة متسارعة. وقال بدارو “لقد فقدت الطبقة المتوسطى ما يقرب من ثلثي قوتها الشرائية وانتقلت إلى المستوى الأدنى منها”. وأضاف “عندما تميل الطبقة المتوسطى إلى الاختفاء تقريبا في أي دولة، فإنها تجلب اختلالا تاما في النظام بأكمله وتعطلا اجتماعيا”. وكان لبنان يمر بأزمة قبل فترة طويلة من الاضطراب الناجم عن جائحة فايروس كورونا، التي زادت من تعقيد الوضع على نحو أكبر. وتعود نشأة هذه الأزمة إلى تسعينات القرن الماضي حين كان لا بد من إعادة بناء البلاد بعد حربها الأهلية خلال العقد السابق. واستطاع لبنان جذب المغتربين في 1997 لإعادة الاستثمار بالبلاد من خلال تحديد سعر صرف الدولار عند 1500 ليرة، ومن خلال ذلك قلل من المخاطر التي كان من الممكن أن تواجه المودعين. ديون لبنان تعد ثالث أعلى نسبة في العالم ديون لبنان تعد ثالث أعلى نسبة في العالم ولكن مع ركود الاقتصاد منذ انفجار الأزمات في المنطقة منذ العام 2011، تجاوزت الحكومات المتعاقبة حدود الإنفاق وفشلت في تنفيذ الإصلاحات، وأدى اختلاط الفساد والبيروقراطية إلى إعاقة نمو الاقتصاد. وللحفاظ على قيمة العملة المحلية، اعتمد مصرف لبنان المركزي على الهندسة المالية، إذ قدم أسعار فائدة عالية بشكل غير مستدام لكبار المودعين في ما وصف بأنه “مخطط بونزي تحت إشراف الدولة”. وعندما تباطأ الاقتصاد الحقيقي تُركت البنوك معرضة للخطر وأصيب المودعون بالذعر. وبينما سارع اللبنانيون إلى سحب أموالهم فرضت البنوك ضوابط صارمة على رأس المال. ولا يعرف اللبنانيون العاديون ما إذا كانوا سيستعيدون أموالهم، وعلاوة على ذلك أدى نقص الدولار إلى زيادة في قيمته وما نتج عنه من انخفاض في الليرة، مما قلل من قيمة العملة التي يكسبها معظم اللبنانيين. وبحسب تحذير للبنك الدولي في نوفمبر الماضي، كان من المتوقع أن يرتفع معدل الفقر في لبنان من 30 إلى 50 في المئة. ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بمجرد أن يتم أخذ تأثير انخفاض قيمة العملة والبطالة الناتجة عن الوباء في الاعتبار. ويتوقع صندوق النقد الدولي حدوث انكماش بنسبة 12 في المئة للاقتصاد، مما سيفاقم الضغوط على المواطنين بشكل قد يؤدي إلى حالة احتقان لم تشهدها البلاد من قبل. تراجع القدرة الشرائية تراجع القدرة الشرائية وللمرة الأولى، تخلف لبنان عن سداد ديونه عن سندات مقومة باليورو بقيمة نحو 1.2 مليار دولار واحتفظ بالمال داخل البلاد لدفع تكاليف الخدمات الأساسية. ويُخشى أن يؤدي ذلك إلى زيادة تقليل مصداقيته بين الدائنين. خاصة أن ديون البلاد تعد ثالث أعلى نسبة في العالم، أي ما يعادل 170 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وبدأت حكومة حسان دياب محادثات مع صندوق النقد على أمل الموافقة على خطة إنقاذ بقيمة 9 مليارات دولار. ويقول خبراء إن أي صفقة مع الصندوق ستكون مرتبطة بتنفيذ إجراءات التقشف، التي قد تثير موجة غضب لدى اللبنانيين. وقال ناصر ياسين الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت لفورين بوليسي “ستشمل إجراءات التقشف تجميد الوظائف في القطاع العام، مثل المعلمين وغيرهم. وسينتج عن ذلك تأجيج احتجاجات شعبية وردود فعل كبيرة من النقابات والمجموعات المهنية“. وأشار إلى أنه حتى لو كانت شروط صندوق النقد مقبولة ونجحت المحادثات بشأنها، فسيستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن يتمكن الناس في الشوارع من جني ثمارها.
مشاركة :