وضع امتلاء أسرّة المستشفيات بأعداد المصابين بفايروس كورونا في مصر العديد من العائلات أمام اختبار صعب كشف عن مدى تماسك الروابط الأسرية، إذ أن بعض المرضى أُكرهوا على ملازمة منازلهم من أجل الحصول على العلاج، وهو ما أثبت أن التغلب على المرض والنجاة منه مسؤولية كل العائلة. القاهرة- قبل أسابيع قليلة من إصابة محمد خضر، وهو موظف حكومي بمحافظة البحيرة (شمال القاهرة) بفايروس كورونا المستجد، كانت الخلافات مع زوجته لا تتوقف، رغم أنهما متزوجان منذ عقدين، حتى كشف له الوباء كيف أن شريكة حياته شديدة الوفاء. ولم ينكر خضر، الذي اضطرته ظروف امتلاء أسّرة المستشفيات بأعداد المصابين للحصول على علاجه في المنزل، أن علاقته بزوجته قاربت أن تصل لطريق مسدود، حتى جاءت إصابته بكورونا لتجبره على إعادة النظر في حساباته الأسرية. وقال خضر لـ”العرب”، هاتفيا، إنه أصبح سببا في أن تعيش أسرته حالة من الرعب بحكم أنه يتلقى العلاج في المنزل، ومن الطبيعي أن يخشى جميع الأفراد على أنفسهم من انتقال العدوى، لكن زوجته لم تتهرب من المسؤولية ومنحته دفعة معنوية واهتماما واحتواء سهّلت عليه الصدمة. وتسبب توسع الحكومة المصرية في علاج مصابي كورونا في منازلهم لزحام المستشفيات، في تعميق الأزمات الأسرية التي يصاب أحد أفرادها، وأضحى حامل الفايروس مصدر قلق وتوتر، خوفا من تدهور صحته وربما وفاته، أو نقل العدوى لباقي أفراد الأسرة. وأكد الأب الأربعيني أن “إصابة أحد أفراد الأسرة بكورونا، اختبار جاد وقوي للتماسك العائلي، ففي المحن تظهر هشاشة أو متانة العلاقة، وعند المصيبة تظهر أصالة شريك الحياة”. ودعم هذا الرأي، محمد هاني استشاري الصحة النفسية، بالإشارة إلى أن “إحساس فرد الأسرة الذي يحمل وباء قاتلا بأن عائلته تتمسك بالوقوف إلى جانبه، ولو كان الأمر خطرا عليهم، يشكل نحو 50 في المئة من نسب شفائه، لكن الخطورة أن يكون الاهتمام الأسري محاطا بالشفقة، لأن انعكاسات ذلك خطيرة عليه، ويشعر أنه أصبح عبئا ثقيلا على أقرب الناس إليه”. هاله يسري: دعم المريض الذي يتلقى العلاج المنزلي والنجاح في التعامل معه كفيلان بالحفاظ على التماسك الأسري هاله يسري: دعم المريض الذي يتلقى العلاج المنزلي والنجاح في التعامل معه كفيلان بالحفاظ على التماسك الأسري ولفت هاني في حديثه لـ”العرب” إلى أن هناك مخاطر أشد وطأة على نفسية مريض كورونا، تتمثل في إمكانية أن تُشعره الأسرة ولو عن غير قصد، أنه ارتكب ذنبا في حقها، وكان سببا في أن تكون موصومة مجتمعيا، لأن المصاب بعد تماثله للشفاء يتذكر كل نظرة وموقف من عائلته، وعلى أساسها إما يحصن قوام الأسرة من التصدع، وإما يعيد حساباته ويقرر هدم أركانها. وأقرب مثال على ذلك، أن بعض الأبناء قد يصرون على تلقي الأب أو الأم، من حاملي الفايروس، العلاج في المستشفى لخوفهم على أنفسهم من انتقال العدوى، وهذا إحساس قاسٍ يقود إلى شعور المصاب بأنه شخص غير مرغوب فيه، وأقرب الناس إليه يحاولون التخلص منه، في حين لو تقبلت الأسرة أن تقوم بدور المعالج في المنزل بصدر رحب ودون تذمر، فإن صدمة عضو الأسرة من الإصابة تكون أقل. وما يزيد متاعب الأسرة التي يتلقى أحد أفرادها العلاج المنزلي، أنها مطالبة بالتخلي عن خوفها ورهبتها ولو كانت مصابة بحالة معنوية سيئة، لتقوم بدور المعالج النفسي لعضو العائلة الذي يحمل الوباء، ومساندته لحين اكتمال مرحلة الشفاء. وتزداد الصعاب عند العائلة التي تسكن في بيئة بسيطة، ولديها منزل صغير لا يسمح بعزل الفرد المصاب في غرفة مستقلة، فهناك أسر كثيرة لا تمتلك الفصل بين أفرادها لدرجة أنه في بعض الأحيان يكون المنزل عبارة عن غرفتين، واحدة لجميع الأبناء وثانية للأب والأم. وتظهر هنا أصالة أفراد الأسرة ومدى خوفهم على المصاب وتوفير كل سُبل الراحة النفسية والمعيشية ولو كان ذلك على حساب إرهاقهم جسديا وذهنيا وماديا، لأن أغلب تعليمات الأطباء تؤكد على ضرورة قيام العائلة برفع معنويات المريض لتجنب انهيار جهازه المناعي. صحيح أنه من النادر في المجتمعات الشرقية أن يتخلى شريكا الحياة عن بعضهما وقت المصائب الإنسانية، مثل إصابة أحدهما بالمرض، لكن وباء كورونا كرس حتمية صلابة العلاقة الزوجية والأسرية لضمان بقاء أفراد العائلة بجانب بعضهم. غير أن بعض الوقائع التي ظهرت مع تفشي وباء كورونا برفض الأبناء استلام جثث ذويهم، مثل الآباء والأمهات الذين توفوا بالمرض في المستشفيات، عكست حجم الخلل الذي أصاب العلاقات الأسرية، وكذلك الجحود وغياب الوفاء والترابط. ويرى خبراء علم النفس والاجتماع، أنه ليس سهلا على زوج يعرف أن شريكة حياته مصابة بوباء قاتل، وقد يكون سببا في وفاته ويتمسك بالبقاء إلى جانبها، وبالمثل الأبناء في تعاملهم مع الآباء المصابين، ما يعني أن لكورونا وضعية خاصة تتطلب إظهار التضحية والمثالية والنُبل حتى آخر لحظة، لأن ذلك يكفل زيادة الصلابة النفسية لحامل الفايروس ليكون قادرا على المواجهة وليس الاستسلام. وقالت هاله يسري، أستاذة علم الاجتماع بمركز بحوث الصحراء بالقاهرة، إن الدعم العائلي لمريض كورونا الذي يتلقى العلاج المنزلي مسؤولية شاقة على كل أفراد الأسرة، والنجاح في التعامل معها بالاحتواء والتضامن، بغض النظر عن الخسائر، كفيل بالحفاظ على التماسك الأسري مستقبلا، لأن المصاب يكون في أضعف حالاته وينتظر الدعم من أقرب ذويه، وإذا تحقق ذلك يشعر بقيمته وسط أسرته، ومن الصعب أن ينسى هذا الموقف. تسبب توسع الحكومة المصرية في علاج مصابي كورونا في منازلهم لزحام المستشفيات، في تعميق الأزمات الأسرية التي يصاب أحد أفرادها، وأضحى حامل الفايروس مصدر قلق وتوتر وأوضحت يسري لـ”العرب” أن الاختبار الأهم في ظل جائحة كورونا هو مدى متانة العلاقة الزوجية، وهل تكون مهيأة للانهيار ومتينة ويصعب أن يخترقها الشقاق مهما كانت الصدامات المستقبلية، فلا شيء أخطر من مساندة ودعم شريك الحياة وهو يعاني من فايروس يُوصم المجتمعُ المصابين به بأبشع التوصيفات، كأنهم ارتكبوا جريمة في حق الآخرين. وتكمن خطورة العلاج المنزلي في أن أغلب الأسر ليس لديها الوعي الكافي الذي يؤهلها للتعامل بشكل سليم مع ذويها من حاملي الفايروس، وتضاعف الاهتمام تحت ضغط الحب والعاطفة، ما يفرض على المؤسسات الطبية مشاركة العائلة دورها الطبي والنفسي، على الأقل بتقديم حزمة من الإرشادات تعين الأسرة على تجاوز المحنة. وتزداد المعضلة عند الأسر التي يكون فيها الأب والأم أمّيين، والأبناء من خريجي التعليم المتوسط أو غير متعلمين، وهذه ثقافة موجودة عند من يفكرون في الإنجاب من منظور اقتصادي بحت، بحيث يساعدون العائلة على العمل في الحقل أو يرثون نفس الحرفة، وبالتالي فإن وجود غير متعلمين داخل الأسرة قد يزيد المتاعب ويصعب مهمة أفرادها في التعامل مع المصاب بشكل صحيح. ويتوقع متخصصون في علم الاجتماع أن تغير جائحة كورونا الثقافات البالية عند بعض الأسر، مثل تجاهل تعليم الأبناء والاستثمار في تفوقهم الدراسي وليس استغلالهم كأداة اقتصادية لجني الأرباح المادية فقط، بحكم أن أيّ عائلة في الوقت الراهن أضحت في حاجة ماسة إلى أن يكون بين أفرادها متعلمون ومثقفون يستطيعون اتخاذ القرارات المناسبة.
مشاركة :