معضلة الكثير من الأسر العربية تكمن في أنها اعتادت على الاعتداء البدني واللفظي على الفتيات المراهقات، بدافع تقويم سلوكهن وإجبارهن على اتباع نمط حياة أكثر تقييدا لتحركاتهن وحرياتهن وملبسهن، فوجدت الكثيرات منهن صعوبة في تقبل العيش في الأطر التقليدية التي تضطهدهن وتحرمهن من أبسط حقوقهن، فخيرن الهرب بحثا عن بيئات أخرى تكون أكثر أمانا وتسامحا معهن. القاهرة - جددت تحقيقات الأمن المصري في اختفاء ثلاث فتيات والتخطيط للزواج العرفي دون علم الأسرة، الجدل حول ظاهرة هروب المراهقات من بيت العائلة، فلم تعد مثل هذه الوقائع فردية أو مقتصرة على مجتمع بعينه، بل صارت تحدث بشكل متكرر في دول عربية كثيرة، أخفقت في وقف العنف الأسري والترهيب النفسي. وقالت الشرطة المصرية في تحقيقاتها، إن الفتيات الثلاث هربن من منازلهن بعد تكرار الاعتداء عليهن من آبائهن وأمهاتهن، وهي نفس المبررات التي تستند إليها مراهقات عربيات عندما يتركن أسرهن دون سابق إنذار، فتنتفض الأسرة وتدّعي اختطافهن، وتكون المفاجأة أنهن اخترن الزواج العرفي بمحظ إرادتهن بحثا عن أحضان دافئة وبيئات آمنة. وكانت بعض الفتيات تهربن من بيت الأسرة وتخترن الإقامة لدى أحد أقاربهن أو أصدقائهن كرسالة تحذير للأهل من خطورة الاستمرار في السلوك العدواني، لكن خطورة العنف الذي أصبح يستهدف المراهقات بذريعة تربيتهن وعقابهن على الأخطاء أصبح يلقي بهن في دوامة الزواج العرفي دون وعي. ويصعب تحديد أرقام معدلات انتشار ظاهرة هروب الفتيات في المجتمعات العربية بسهولة، لكن التحذيرات التي تطلقها منظمات حقوقية ونسائية مهتمة بشؤون الأطفال توحي بأن النسب في تصاعد مستمر، ويتم تقييمها وفق نسب البلاغات الواردة إلى أجهزة الشرطة، وأسباب الزواج العرفي التي يكون العنف في صدارتها. ويتلقى خط نجدة الطفل في مصر ألف شكوى يوميا من الاعتداء البدني على الصغار والمراهقات. وفي الجزائر، حذرت شبكة الدفاع عن حقوق الطفل من استفحال ظاهرة هروب القاصرات من بيوتهن، وشهدت فترة الحجر الصحي اختفاء 100 فتاة. وتحدثت منظمات نسائية في كل من السعودية والمغرب عن انتشار هذه الظاهرة بوضوح. وتكمن معضلة الكثير من الآباء في أنهم اعتادوا على تقويم سلوك الأبناء، تحديدا الفتيات، بنفس الطريقة التي تربوا عليها في الصغر، من خلال الاعتداء البدني واللفظي والترهيب النفسي، دون مراعاة لتغير الظروف، وحاجة الأجيال الجديدة للاحتواء لا العقاب الذي يدفعهم للبحث عن بيئة آمنة غير الأسرة. وإذا كانت أغلب العائلات في المجتمعات الشرقية تميّز الذكور عن الإناث في الكثير من الحقوق، فلا يتم التعامل مع الأنثى بشكل يحترم كينونتها ولا براءتها، بحيث تكون لها خصوصية في نمط التربية عندما ترتكب خطأ. ومع كل واقعة هروب فتاة تكون ردود فعل أسرتها عنيفة، وتوصمها بتوصيفات بشعة، على غرار أنها منعدمة التربية وتستحق العقاب البدني، وهناك من يحرض بطريقة المثل الشعبي “اكسر ضلعا لابنتك لتتجنب جلب العار لأسرتك”. ويمكن من خلال ردود الفعل من جانب الكثير من الأسر، اكتشاف حجم العنف الموجه ضد الفتيات، فمنها من يبيح ضرب المراهقات كطريقة وحيدة للتربية، ما يجعل معدلات الاعتداء البدني على الإناث يصل لمستويات قياسية، فيما تمنعهن التقاليد والأعراف الاجتماعية من الهروب خشية الوصمة المجتمعية. كما أن بعض رجال الدين يصدرون بين الحين والآخر فتاوى تحث على ضرب الأنثى التي تحتاج لتقويم السلوك، بذريعة أن الشرع أباح ذلك، وهو ما أشار إليه الداعية الأزهري عبدالله رشدي مؤخرا بقوله “العنف ضد المرأة ليس مبررا لهجرة البيت والتمادي في تصرفات قليلة الأدب”. وقال محمد هلال، استشاري الصحة النفسية في القاهرة، إن التماس الأعذار من جانب المجتمع للآباء على ضرب الفتيات يغذي العنف الأسري، والخطر أن يكون هناك صك ديني يبيح هذا التصرف المشين، لأن أغلب الناس في البلدان العربية متدينون بالفطرة، ويستخدمون الفتوى مبررا لأي فعل خاطئ، ولو كان يشوه صورة الدين. وأضاف لـ”العرب”، أن الفتاة في مرحلة المراهقة تميل للاستقلال والبحث عن حضن دافئ وبيئة آمنة، ولو لم تجد هذه المزايا داخل أسرتها، سوف تضطر للبحث عنها خارج بيت العائلة، فقد تتزوج عرفيا من شاب يستغل ظروفها، لأنه في هذه الحالة تكون وصلت لمرحلة الاستسلام والتضحية بأي شيء للحصول على الأمان. رغم وجود قوانين في أغلب البلدان العربية تعاقب الآباء على الاعتداء البدني بحق أبنائهم، لكنها غير مجدية ولفت إلى أن هناك أزمة حقيقية لدى الكثير من الأسر، وهي تقديس أسلوب التربية الذي نشأت عليه، فمن كان يتعرض للاعتداء في الصغر من أبويه يرى أن هذا السلوك أفضل وسيلة للتقويم، مع أن شباب اليوم متمردون بالفطرة على كل ما يرتبط بالماضي، وإغفال الآباء لهذه النقطة يقود إلى كوارث أسرية. ويدرك بعض الآباء أنه من حق الأبناء الإدلاء بآرائهم والدخول في نقاش معهم والدفاع عن حقهم في نمط الحياة الذي يناسبهم، فالجيل المعاصر يقدس حقه في الاعتراض، ما وسع الفجوة بين الطرفين، وصارت هناك أزمة في التفاهم، حتى الأم التي يفترض أنها صديقة لبنتها وتوفر لها الحنان شغلتها صعوبات الحياة عن القيام بدورها. ويرى متخصصون في شؤون الأسرة، أن الفتاة المراهقة إذا شعرت أنها مجبرة على نمط حياة لا يناسبها، وتفرض عليها قوانين عائلية لا تتوافق مع طموحاتها، وتعيش غريبة ومنبوذة في بيتها، فإنها تميل تجاه الأصدقاء وإقامة علاقات غير مشروعة تعوضها عن سجن الأسرة المعنوي، حتى تسقط في براثن شاب يغريها بالعاطفة المفقودة، وبعدها يتم وصمها بأعنف التوصيفات. وعندما تصل علاقة الفتاة بالبيت حد الكراهية، لن تحترم الأعراف أو التقاليد، لأنها ترى في التمرد على الأسرة التي تعيش فيها حلا وحيدا لتعيش حياة كريمة وآدمية، فتلجأ إلى كسر والديها بالهرب، وتضطر إلى أن تقدم نفسها على طبق من ذهب لمن يرغب في الزواج منها ولو عرفيا، فلم يعد لديها ما تخسره، المهم أن تنتقم من عائلتها. Thumbnail ويزيح التدقيق في حوادث الاختفاء الأخيرة لفتيات من مجتمعات مختلفة، الستار عن أزمة أكبر، فلم تكن تجرؤ أي أنثى مراهقة تعيش في بيئة ريفية أو شعبية على الهروب من بيتها بعكس الحاصل في مناطق حضرية، لكن المعادلة تغيرت، ما يوحي بأن التقاليد الصارمة تحطمت أمام تمرد الفتيات على العنف والتمسك بإعلان العصيان. وأكدت أسماء عبدالعظيم، استشارية العلاقات الأسرية، أن تجاهل المجتمع توجيه اللوم إلى الأسرة التي تتخذ من العنف سبيلا مثاليا لتقويم سلوك المرأة، يشجع العائلات على ارتكاب المزيد، وحان وقت التعامل مع هروب الفتيات باعتباره أحد أهم الأسباب التي ضاعفت حالات الزواج العرفي بين المراهقات كمدخل لترهيب الأسر وإجبارها على تغيير سلوكياتها، لأن أغلب المعنفات لديهن شغف بخوض التجربة والميل للتقليد. وأوضحت لـ”العرب”، أنه رغم وجود قوانين في أغلب البلدان العربية تعاقب الآباء على الاعتداء البدني بحق أبنائهم، لكنها غير مجدية، والمعضلة أن العنف صار يصدر عن فئات متعلمة، ما يعني أنه سلوك متوارث لا علاقة له بالجهل، بل غياب الوعي بالتربية الصحيحة الآدمية، ما يُشعر الكثير من المراهقات بأن الابتعاد عن منزل الأسرة سوف يوفر لهن حياة أفضل. وإذا كان أغلب أرباب الأسر لديهم مشكلة أزلية مع الأساليب التربوية الصحيحة في تقويم سلوك أبنائهم، فالأمل الوحيد في التركيز على الأجيال الصاعدة بتعريفهم كيف يربون أولادهم عندما يتقدمون في السن ويكونون مسؤولين عن عائلة، بحيث تكون هناك مناهج تعليمية متخصصة لذات الغرض، لأن التراخي في هذه الخطوة من شأنه أن يتوارث الأبناء طريقة الآباء في التربية، ويصبح العنف الأسري ثقافة مجتمعية تتناقلها الأجيال، وتستمر الفتيات في البحث عن الملاذ الآمن خارج إطار الأسرة.
مشاركة :