غالبا ما تكون عروض مسرح الشارع ذات سمة تحريضية، ولاغية للمسافة الفاصلة بينها وبين الشرائح المتقبّلة لها من أجل تعميق تفاعلها، وإشراكها في القضايا التي تطرحها. تلك هي فلسفة مسرح الشارع وإن زاغ أحيانا عن هدفه الأسمى بانحسار بعضها في الطابع الاحتفالي الفولكلوري والاستعراض والبهلوانية. مسرح الشارع تسمية تُطلق على العروض المسرحية التي تُقدم لشرائح اجتماعية مختلفة، دون تحديد، خارج العمارة المسرحية، في الهواء الطلق والفضاءات الرحبة، كالساحات العامة والشوارع والحدائق ومراكز التسوّق ومواقف السيارات، من غير سينوغرافيا عادة، وتتناول قضايا يومية مختلفة. ويمكن إدراج هذه العروض ضمن ما يعرف بـ”المسرح التفاعلي” (سُمّي بالمسرح التحفيزي أيضا) الذي يسمح بالجدال وطرح التساؤلات بحيث يتفاعل معها الجمهور والمؤدّون على أساس “التغذية الراجعة”، أي أن العرض يُشرك الجمهور في الفعل المسرحي، ويستجيب لردود أفعاله. مسرح سياسي راديكالي يعرّف الباحث الأميركي هنري ليسنك مسرح الشارع في ملاحظات تمهيدية، بأنه “مسرح سياسي راديكالي يقدّم عروضه في الشارع، والمدارس، والمراكز التجارية، وخارج بوابات المصانع، وفي أي مكان آخر يمكن أن يتجمع فيه الناس. إنه مسرح بَسط وإثارة للقضية”. ويؤرخ ليسنك لتبلور هذا المسرح في الولايات المتحدة، كحركة متميزة بدءا من عام 1967 في ظل تأثير الحركة المناهضة للحرب في فيتنام. ومن أشهر الفرق المسرحية الأميركية في هذا المجال فرقة “مسرح الخبز والدمى” التي أسّسها المخرج بيتر شومان في نيويورك عام 1961، وهي فرقة ذات بعد أيديولوجي كانت تتنقل بعروضها بين فضاءات مختلفة، حيث التجمعات السكانية، معبّرة عن احتجاجها على تلك الحرب والظروف الاقتصادية والسياسية السيئة في بلادها، باستخدام الدمى. من لا يستطيع صنع بداية جاذبة وحيوية لافتة للأنظار ومتمتعة بخفة ظل في مسرح الشارع، يفقد جمهوره منذ اللحظة الأولى لدعوته وقد عُرفت على نطاق عالمي مسرحيتها “فيت روك”، وهي اختصار لاسم فيتنام ورقصة الروك أند رول، كتبتها ميغان تيري، المعروفة بمواقفها ضد الحروب ومآسيها، وتتناول مقتل مجموعة من الجنود الأميركان، بانفجار عبوة ناسفة أيام احتلال فيتنام، وعودتهم إلى الحياة بعد حين، على نحو افتراضي، لينزلوا من خشبة المسرح، ويتوغّلوا بين المتفرّجين يسألونهم عن موقفهم من مشاركة أميركا في الحرب ضد الفيتناميين، وما جرّته عليهم من نكبات ومصائب وهزائم بفعل إصرار الشعب الفيتنامي على الصمود والعزيمة الصادقة على طرد المحتلين الأجانب. وبذلك يسحبون الجمهور إلى المشاركة في الحدث الدرامي، ويحرضونهم على الوقوف ضد تلك الحرب الطاحنة والعمل على إيقافها. وأتذكر أن المخرج العراقي الراحل جعفر علي ترجم تلك المسرحية وقدّمها، مع طلبة كلية الفنون الجميلة ببغداد، في أطلال حصن الأخيضر الأثري ببادية كربلاء في سبعينات القرن الماضي. أصول الفرجة محمد الروبي: مسرح الشارع عليه أن يجيب بوضوح على الأسئلة التي قد يسوقها الجمهور محمد الروبي: مسرح الشارع عليه أن يجيب بوضوح على الأسئلة التي قد يسوقها الجمهور تعود أصول عروض مسرح الشارع إلى التسليات الشعبية الجماعية، ومهارات الألعاب السحرية أو الأكروبات، والفرجات في القرون الماضية، وقد تكون العروض الطقسية والرقصات المعبّرة عن مظاهر العبادة الأقدم منها، التي سبقت ظهور المسرح بشكله الدرامي في اليونان والهند واليابان ودول آسيوية أخرى، هي الجذر الذي نبتت منه. وفي ثقافتنا العربية يمكن أن نربط بين هذه العروض والمظاهر شبه المسرحية، أو الأشكال ما قبل المسرحية التي عرفتها فضاءات مفتوحة كالشوارع والساحات العامة في بلدان عربية عديدة، مثل فرجات “الحلقة”، و”أعبيدات الرمى”، و”أحواش”، و”سلطان الطلبة”، و”البساط” في المغرب، و”السامر” و”الأراجوز” و”الحكواتي”، و”المداح”، و”القوال”، وطقس عاشوراء (التشابيه أو تمثيل واقعة الطف)، واحتفالات خميس المشايخ” و”الأراجوز”، و”الحكواتي”، و”المشخصاتية”، و”الزار”، وطقوس “الذكر الصوفي”، والاحتفالات والألعاب الشعبية المرتبطة بفنون البحر في سواحل الخليج العربي، التي كانت تعتمد على التجمّع السكاني والسمر والغناء وتقاليد النسوة في استقبال سفن صيد اللؤلؤ والتجارة، وغير ذلك. التعامل مع الطارئ يرى الناقد المسرحي المصري محمد الروبي، في ضوء مشاهداته لتجارب مسرح الشارع في مصر أن من أهم متطلباته دراسة القضية المفترض طرحها دراسة متأنية تحتوي على إجابات واضحة لأسئلة قد يسوقها الشارع حولها، وكذلك افتعال مناظرة بين الرأيين تكتب بحرفية كبيرة يكون هدفها النهائي كشف زيف أطروحات الطرف المناوئ وتفنيدها تفنيدا كاملا دون زيادة أو تعال أو تعسّف. كما يحتاج مسرح الشارع إلى تدريب عناصره البشرية تدريبا خاصا وطويلا، فأهم خطواته كيفية التعامل مع الطارئ من الأمور، إلى جانب تمرينات شاقة ومستمرة (بدنية وذهنية) ليكون الممثل في حالة حضور دائم يمكنه من السيطرة على جمهوره المتنوّع المكوّن من فئات عمرية وفكرية مختلفة، من بينها أنصار الطرف (الخصم). ويعتقد الروبي أن البداية في مسرح الشارع تُعدّ أهم مراحله، فمن لا يستطيع صنع بداية جاذبة وحيوية لافتة للأنظار ومتمتعة بخفة ظل، سيفقد جمهوره منذ اللحظة الأولى لدعوته. لذلك على فريق العرض أن يتساءل أولا، وبجدية، عن طبيعة المكان الذي ينوي تقديم عرضه فيه، ليعرف ما الذي يحتاجه لشدّ انتباه ساكني الشارع، وما هي نقاط ضعفهم التي يجب تجنبها، ومتى ولماذا يزيد جرعة الغناء، أو يقلّل من جرعة الارتجال؟ أما أخطر مراحل عروض الشارع وأهمها فهي الحوار المباشر مع الجمهور أثناء العرض، ومدى مقدرة أعضاء الفريق على البناء فوق ما يقوله مشاهد ما، والأهم كيف يسيطرون هم على الأمر، ولا يتركون الخيط يفلت من أيديهم فيقع العرض في هوّة الملل، أو يتحوّل إلى مناظرة حوارية جافة. مهرجانات عالمية لندن لن تخلو مطلقا من عروض مسرح الشارع لندن لن تخلو مطلقا من عروض مسرح الشارع تقام لمسرح الشارع مهرجانات سنوية عديدة في العالم، منها المهرجان الدولى في مدينة أوريلاك الفرنسية، الذي فاق عمره الآن ثلاثة عقود، والمهرجان الدولي في سلوفينيا، والمهرجان الدولي في هامبورغ بألمانيا، ومهرجان غرينتش ودوكلاندس الدولي في لندن. وشهد العالم العربي خلال السنوات الأخيرة نموا لافتا لمسرح الشارع في مصر والعراق ولبنان وتونس (مسرح القطار في قفصة)، والجزائر (تعود ممارسته فيه إلى فترة الاستعمار الفرنسي)، والمغرب (حيث ينشط من خلال فيدرالية المغرب لفنون الشارع، وقد حوّل مبدعون شباب، مؤخرا، غرف منازلهم إلى فضاءات مسرحية مصغّرة، مستعينين بأدوات بسيطة مستوحاة من أجواء المسرح، لتقديم عروضهم عبر فيسبوك، بسبب جائحة كورونا، في إطار مبادرة “شارع الحجر”). كما جرى تنظيم مهرجانات مسرحية محلية وعربية ودولية له في أكثر من مدينة، قُدّمت فيها عروض لفرق ممارسة لهذا الشكل المسرحي ولمسرحيين هواة، اتسم بعضها بالطابع التحريضي على الظروف الاقتصادية والسياسية السيئة في المجتمعات التي أنتج فيها، في حين غلب على بعضها الآخر الطابع الاحتفالي الفولكلوري، والاستعراض والبهلوانية، وخلا من الحرفية العالية، ولم يخض في قضايا المجتمع وهمومه على نحو عميق، الأمر الذي جعل علاقته بالجمهور محدودة نوعا ما. محمد الجنايني: لا يصحّ لمسرح الشارع أن يكون مشفّرا ومحملا برموز معقدة، فهو مباشر يخلق الحميمية محمد الجنايني: لا يصحّ لمسرح الشارع أن يكون مشفّرا ومحملا برموز معقدة، فهو مباشر يخلق الحميمية وتُعدّ تجربة المخرج المسرحي المصري محمد الجنايني من أبرز التجارب العربية وأقدمها في مسرح الشارع، فقد بدأت عام 1990 حينما اتفق مع عدد من المسرحيين في مدينة السويس على الخروج عن الشكل التقليدي للمسرح، شعورا منه بأن مسارح الدولة لا تصلح لتقديم أي عروض عليها، إضافة إلى أن الجمهور لا يضع المسرح في اهتمامه، كما أنه يعاني الأمية، رغم تعاطيه مع فنون مسرحية تراثية وشعبية موجودة، ومن ثم كان لا بد من الذهاب إليه. وبعد مرور عشر سنوات أسّس الجنايني فرقة “السويس لمسرح الشارع”، بالتعاون مع الباحث الفولكلوري والكاتب المسرحي حسن الإمام، الذي كتب معظم أعمالها، وما زال يكتب حتى الآن. وأخرج الجنايني الكثير من عروض الفرقة، وشارك في العديد من المهرجانات المحلية والإقليمية، وحصل على جائزة المركز الأول (الدرع الذهبي) عن عرضه “حنة سويسي”، مناصفة، مع عرض “داموس” لفرقة “جمعية القطار للمسرح” التونسية في الدورة الرابعة من مهرجان بغداد الدولي لعروض مسرح الشارع، التي نظمها تجمع “فنانو العراق” عام 2018. ويؤكد الجنايني أن مسرح الشارع مسرح تحريضي وضد السلطة؛ لأنه صادق وهادف ومناوئ للزيف، وهو مباشر يخلق الحميمية، ولا يصحّ أن يكون مشفّرا ومحملا برموز معقدة. وأول شروط هذا الشكل المسرحي الصدق الشديد في طرح مشكلات الواقع، وأن يجري اختيار النصوص التي تلائم الجمهور الذي تتوجّه إليه، كما أنه عرض يتحرّر من الديكورات، ويعتمد أساسا على الممثل في جذب الجمهور الذي يمثّل بجسده الديكور.
مشاركة :