يجهلُ كلّ شخص في العالم سبب وقوعنا تحت وطأة وباء كوفيد - 19، قد يعتبره البعض حظّ الإنسانية السيئ أو انتقام الطبيعة التي أوغلنا في استغلالها والتطاول عليها. فَرضت علينا تدابير الوقاية من هذا الوباء أن نصير مثل العصافير في أقفاصنا، ممنوعين من الطيران أو الشدو خارجها. أصبح كلّ واحد منّا خائفا من أن تطير روحه من قفصها، إذا تماهينا مع ما قاله الكاتب الفرنسيّ فيكتور هوغو أنّ "الروح هي العصفور الوحيد الذي يُبْقِي على قفصه". توجّب علينا الإبقاء على أنفسنا في قفص آخر، حفاظا على روحنا التي في قفصها. وتوجّب على الجميع التأقلم ثمّ الترقّب. ولكن كم هو عجيب أمر الإنسانية حين تفاجئنا بنتاجها الفعّال خلال الأزمات الضّارية لنكتشف أنّ الفنّ هو سبيلنا الوحيد ضدّ الانهيار، ضدّ الاستسلام وضدّ الموت. العزلة مؤلمة ولكنّها مثمرة منصّات لعرض الأعمال الفنيّة منصّات رقمية لعرض الأعمال الفنيّة أطلقت العديد من المؤسّسات والجمعيّات والشخصيّات الفنيّة طوال فترة الحجر الصحيّ في تونس العديد من المبادرات الفنيّة التي قدّمت خلالها كتابات وتجارب فنّانين تونسيّين وأجانب. ساهم البعض في حملات التبرّع التي أطلقتها الدولة والمجتمع المدنيّ للتصدي لمخلّفات الجائحة العالميّة عبر عرض أعمال فنيّة وبيعها لتذهب عائداتها لصالح وزارة الصحة، مثل غاليري الكسندر روبوتزوف والمنصة الافتراضيّة أرشيف-ارت. أمّا البعض الآخر فقد حوّل توجّهه مباشرة نحو عرض ثمار العزلة التي عاشها الفنّانين أثناء الحجر الإجباري، لينتجوا منصّات لعرض الأعمال الفنيّة التي أنجزها المبدعون والتي يندرج بعضها ضمن فنّ اليوميّات. إذ تعمل الفنّانة الفرنكو-تونسيّة فريال زواري على مشروع افتراضي تحت عنوان "خطوة نحو المابعد"، وهو مشروع لمنصّة فنيّة تجمع نصوص وأعمال لجملة من أهمّ الأسماء الفنيّة التونسيّة والأجنبيّة في عالم الكتابة والفنّ التشكيليّ، مثل مساهمة الكاتب والمفكّر الفرنسي بول آردان بنص قصير هو عبارة عن يوميّة مؤرخة في 5ماي 2020. كما شارك الروائي التونسي يامن المنّاعي بكتابة مذكرات تعود إلى طفولته، هذا بالإضافة إلى نصوص أخرى منها ما قدمته الشاعرة التونسيّة ميرا حمدي والكاتبة الفرنسيّة نين موواتي والباحثة في تاريخ الفنّ إيلزا ديسبيناي وأستاذ العلوم السياسيّة جون بول شانولو، وغيرهم. لقد قدّموا نصوصا عن يوميّاتهم وذكرياتهم وتصوّراتهم أثناء الحجر، هي نصوص حول الذاكرة والوحدة والطفولة والطبيعة والأحلام والسّلام والخوف والمستقبل. يعمل لاحقا الفنّانين التشكيليّين على النصوص المكتوبة ليقدّموا أعمالا تشكيليّة مستلهمة من الكلمات، مثل العمل الفوتوغرافي الذي قدّمته الفنّانة التونسيّة ليليا القلي بعنوان "التحليق" والمصاحب لنص المؤرّخة إيلزا ديسبيناي أين تحدّثت عن "الإحساس بالجمال". كما كنت بصفتي الشخصيّة من بين المشاركين في هذا المشروع بعمل تصويريّ مُستلهم من النصّ الذي كتبته الفرنسيّة نين موواتي "خطوة على الطريق". "ثمار الحجر" هو عنوان المنصّة الافتراضيّة الأخرى التي أطلقها صاحب رواق "البيرو" كريم الصغيّر والتي اهتمّ من خلالها بتقديم صور من الكواليس التي يشتغل فيها التشكيليّون وهم في الحجر وداخل ورشات عملهم السريّة، يقول "كانت المبادرة عفويّة بعد تشاور مع أصدقاء الرواق الذين ابدوا استعدادهم لمُشاركة روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ ما يعيشونه وما ينتجونه في الحجر. فرض علينا الكوفيد 19 عزلة إجبارية مخيفة هدّدت الحياة الطبيعيّة للجميع، وكان لابدّ علينا أن نخرج من حالة الإحباط والخوف التي تملّكتنا، وحسب رأيي ليس أصلح لنا من متعة الفنّ لنسيان ما ألمّ بنا من خسائر معنويّة وماديّة. صحيح أنّ العزلة تجعل الخوف ينمو داخلنا ولكنّ الخوف أيضا مثمر إذا ما نظرنا إلى كلّ ما أنتجه الفنانون في هذه الفترة". وقد شارك في هذه المنصّة العديد من الفنّانين بصور من ورشاتهم للعمل مثل شهرزاد الفقيه وهدى العجيلي ونجاح زربوط وأسامة الطرودي وهالة عمّار ومريم بودربالة وميسم مروكي ونادية زواري وأميرة مطيمط ومحمد أمين حمودة وماجد زليلة وغيرهم من الأسماء المهمّة في الساحة التشكيليّة التونسيّة والعالميّة. المكتبة مع كمال الرياحي الفن.. حل أفضل للنجاة الفن.. حل أفضل للنجاة أطلق الروائي التونسي كمال الرياحي، أثناء فترة حجره المنزليّة، برنامجا على اليوتوب بعنوان "المكتبة" يبث من خلاله قراءات لكتّاب وروائيين عرب لمقاطع من روايات يختارونها مثل الكردي السوري جان دوست صاحب رواية "كوباني"، والمترجمة الفلسطينيّة ريم غنايم، والروائي الجزائري الكبير عمّارة لخوص صاحب رائعة "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك"، والناقد الجزائري لونيّس بن علي والباحثة التونسيّة ابتسام الوسلاتي وغيرهم. لاقت هذه التجربة إقبالا من العديد من الروائيين التونسيين والعرب، كانت أهمها في نظري الحوار الذي أجراه الرياحي مع المترجم والباحث التونسي المقيم بالبرتغال عبد الجليل العربي والذي تحدّث فيه عن علاقته بالكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو وتجربته في ترجمة الأدب المكتوب باللغة البرتغالية. أثبتت تجربة العزلة الإجبارية التي عاشها الفنانين مؤخّرا أنهم يمتلكون السلاح الأهم أمام التهديدات التي تواجهها البشريّة وهو الفنّ، ذلك السلاح نفسه الذي وصفته الموسيقيّة اليابانيّة الشهيرة يوكو أونو بطريقتها الأفضل للنجاة. لقد قدّم الكاتب الأمريكيّ كورت فونيجت نصيحة قبل وفاته موجّها كلماته إلى قارئه، والتي أعتبرها أفضل الطرق لتجاوز محنة العيش في هذا العالم، يقول "احتم بالفنّ، إنّه الطريقة الإنسانية لجعل الحياة أكثر احتمالا، قم بممارسة الفنّ، بدون أن تهتمّ إن كنت تقوم بذلك بشكل جيّد أو سيّء، الفنّ هو الطريقة الصحيحة لجعل روحك تنمو وتزدهر، من اجل السماء.. حاول أن تمارس الفنّ قدر استطاعتك، فسوف تحصل على مُكافأة مجزية جدّا".
مشاركة :