في ظلّ استمرار هرولة العالم نحو السقوط تحت وطأة وباء كوفيد 19 والاستسلام اليائس لفكرة "العزلة" القاتلة، يعود بنا الفنّ كلّ مرّة إلى الحياة كما عهدناها ليقدّم لنا حجّة بقائنا الأزليّة "الرغبة"، تلك الهبة الإلهية والقانون الأخلاقي الذي يصفها أفلاطون بـ"الموسيقى"، ويختزلها ألبرتو منغويل في "القراءة"، ويقول عنها دوستوفسكي أنّها "عمل فنيّ من أعمال الخالق الأعظم صاغها صيغة نهائية كاملة كقصيدة من قصائد بوشكين". تونس- تحتفي مدينة سوسة الساحليّة التونسيّة بتظاهرة فنيّة كبيرة في نسختها الثالثة تحت عنوان "يوتوبيا بصريّة" وهي تظاهرة من تنظيم رواق "البيرو" وإشراف كريم الصغيّر بمعيّة ثلّة من أهمّ فناني المنطقة وهم وسام العابد ونجاح زربوط وهالة لمين. وافتتحت الدورة بلوحات جداريه من أنجاز مجموعة من الفنانين مثل الجدارية الخطيّة التي أنجزها الفنّان محمّد كومنجي، أو الجداريّة التي اشتغلت عليها الفنانة منى الجمل بعنوان Océan، أو "بابا أوسّو" كما يحب أن يسميه متساكني المدينة، على حائط عملاق لبناية معهد قديم مهجور. وأُقيمَتْ هذه الدورة في ظروف صعبة في غياب للدعم المادي الذي تتطلبه مثل هذه التظاهرات، ولكن إصرار المشرفين على ترسيخ تقليد سنوي في الفنّ التشكيلي هو الذي حفّز العديد من الفناّنين التونسيين والأجانب للتنقل والمشاركة مجّانا عبر انجاز جداريات ومعارض وتنصيبات في فضاءات مختلفة من المدينة. يقول كريم الصغيّر عن هذه الدورة "هذه السنة نحن نقوم بعمل استثنائيّ على كلّ المستويات، لم تترك لنا الجائحة مخرجا سوى الرغبة في الحياة أكثر، ذلك أنّ الفن لا يقبل الهزيمة، نحن ننتصر أو ننتصر، ليس هناك لنا من بديل في هذه الظروف الصعبة سوى ممارساتنا الجماليّة. لقد ولدت فكرة UV1 بالاعتماد على تشابه الكلمات وتضاد المعنى بين كلمتيْ: ultra-violet(الأشعة فوق البنفسجيّة) و utopie visuel(يوتوبيا بصريّةّ) أي بين الشيء ونقيضه، بين الضرر والمنفعة، بين السيئ والجميل، بين الكوابيس والأحلام وبين الواقع والفنّ. ويضيف: كان رهاننا الأكبر حول كيفيّة انجاز الدورة بدون موارد تذكر، وأعتقد أنّ كرم الفنّ والفنّانين وإيمان أصدقاء الرواق على وجه الخصوص بالعمل هو الذي أنقذ التظاهرة، تماما كما حدث أثناء فترة الحجر الصحيّة عندما خلقنا منصّة افتراضيّة قدّمنا خلالها "ثمار الحجر الفنيّة"". ويتابع قائلا "بالإضافة إلى الجداريات التي أُنجزت، يتضمن برنامج هذه الدورة، الذي يمتدّ من 10 إلى 26 جويلية الحاليّ، معرضا فنيّا في فضاء رواق البيرو، ومعرضا للصور الفوتوغرافيّة والتنصيبات الرقميّة والنحتيّة بفضاء "دار جنينة" الكائن بالمدينة العتيقة بسوسة، والمداخلة التي ينجزها مدير التظاهرة الفنيّ وسام العابد داخل مكتب محاماة معروف. كما سنقوم بجملة من اللقاءات والزيارات الفنيّة الموجّهة للحوار وتبادل الأفكار بمختلف هذه الفضاءات". "رؤوس قد أينعت" "بو راس" هكذا يعرّف الفنّان التونسي وسام العابد الشخصيّة التي يرسمها باستمرار في أعماله. يختزل وصفه البسيط معنيين اثنين في اللّهجة التونسيّة، إذ نقول فلان "كبِرْ راسو" (أي كبُر رأسه) امتعاضا من تكبّره وتضخّم ذاته، أو نقول "بو راس" فعليّا للاستهزاء من حمق شخص ما وغبائه. يحضر "بو راس" على جدران مختلفة من مدينة سوسة، يطلّ علينا بجسده الهزيل والملتوي ليحيلنا إلى دلالات متناقضة إلى حدّ الغرابة. تتواجد هذه الشخصيّة في أشكال وفضاءات متعدّدة إمّا رسما أو قصّا وتلصيقا أو تنصيبات لونيّة وضوئيّة. يصف الفنّان "بطله" بـ"المقلق والمتوتر أحيان كثيرة. يعيش "بو راس" وضعيات حرجة تميل أن تكون هزليّة أو ما يسمي في الأدب بالسخرية السوداء. تنتمي شخوصي إلى الواقع رغم سرياليّة النسب التي أرسم بمقتضاها. أتعمّد غالبا عدم استعمال الألوان للتركيز على ضخامة تفاصيل الرأس وتحفيز تعبيرات العين واليد". تحمل شخوصه إشارات متواصلة إلى القطيعة بين الرأس والجسد، فكلّ الأمور المهمّة تحصل هناك داخل ذلك البالون المنتفخ ووراء تلك العيون الشاخصة. هناك تُنسج الدسائس وتُبنى الأحلام وتنهار الآمال، وهناك تسكن الهواجس والأفكار والتساؤلات والجنون. تحدّثنا شخوصه عن السوء الذي يكمن في رأس السلطة، وعن السّم الذي يحمله رأس الأفعى، عن كلّ تلك الرؤوس التي قطعت في التاريخ منعا للتمرّد أو الاحتجاج. يحضر الجسد وهو بعيد عن كل تشابه مثلما هو بعيد عن الإحساس الذي يدور في حلقة الاسم والشخصية، تلك الحركة المزدوجة من الانثناء والتحليق والاختفاء وكأنها واحد. يحوّل الرسّام الرسم إلى استعارة تقوم تحديدا على التناقض المستمر للمعنى والصورة، للجسد والرأس الذي يعلوه. لسنا بالضرورة أمام رأس يفكّر، على العكس تماما، نحن إزاء رؤوس لم تحاول التفكير، ذلك هو رخاء التبعيّة وصمّام أمان القطعان. تذكّرنا شخوصه بما كتبه الشاعر التونسي أيمن حسن في تقديمه لكتاب سيروان "تاريخ ويوتوبيا" عن الأرق والعذاب اللذان يرافقان حركة التفكير وفعل الكتابة الحقيقيين، يقول أيمن حسن "إنّ مثل هذه الكتب لا ينفتح بسهولة.. إلاّ اللذين درّبوا أنفسهم على ممارسة كتابة وفكرٍ خطيرين بسبب ما ينتج عنهما من الأرق والدّوار والغثيان"، ولكن الأهمّ من ذلك هو وقع الكتابة على القارئ الذي سيخرج "حيّا" لا محالة، ليقرّر بعد ذلك ماذا سيفعل بالمعرفة. تماما مثل ذلك المشاهد الذي يقف مذهولا أمام لوحة ما وهو لا يعرف إن كان ما يشعر به إعجابا أم خوفا، حين تهيمن صورة ما على التفكير ويصبح الرأس مُثقلا بهواجس المعرفة وكوابيس الواقع وسلطة الموت.
مشاركة :