بدت الثورة الفرنسية عام 1789 في أشهرها الأولى وكأنها نجاح عظيم، وعمل البرلمان المنتخب الجديد بانضباط كامل، وتمكنت الطبقة الوسطى من الإسهام في إدارة شؤون البلاد، ولازال إعلان حقوق الإنسان الذي صدر آنذاك نصا أساسيا لأولئك الذين يدرسون تاريخ حقوق الإنسان. ولكن، السنوات التي تلت ذلك أدخلت فرنسا في أتون التطرف وسفك الدماء والإرهاب بكل ما في الكلمة من معنى، وعم الاستبداد والاضطرابات السياسية بشكل لم يكن معهودا حتى قبل اندلاع الثورة، ولأكثر من قرن بعد ذلك، ظلت السياسة الفرنسية متقلبة بشكل لا يصدق، تتجاذبها الانقلابات، والتحول إلى جمهوريات ثم العودة إلى النظام الملكي مجددا، وسط نوبات من الاضطرابات وسلسلة من الحروب. ناقشت مؤخرا هذه الفترة التاريخية مع مجموعة من الأصدقاء الليبيين والمصريين، وكيف أنها تتكرر الآن في منطقتنا بشكل فظيع، فقبل خريف العام 2011 كانت الصحف العالمية تكتب عن بوادر مستقبل ديمقراطي مثالي لليبيا ومصر، وكانت هناك توقعات بأن سوريا واليمن ستتحولان إلى المسار الديمقراطي الحقيقي، كما اجتاحت فوضى الحرب الأهلية عديدا من البلدان غير البعيدة عنا، مثل العراق، عندما أخبرتنا الولايات المتحدة الأمريكية بثقة في العام 2003 إنه سيصبح نموذجا للديمقراطية في المنقطة، ويجب على باقي الدول الاقتداء به. كل هذا يدعوني إلى التفكير، لماذا تتعاقب الأحداث بشكل متشابه في مختلف تلك الدول، حيث تبدأ بتحركات هنا وهناك تحمل مطالب محقة ما تلبث أن تتحول إلى عنف دموي يخسر في الجميع، وألا يمكن بعد كل ذلك التنبؤ بالنتائج الكارثية التي ستترتب على المحاولات العنيفة والمفاجئة للقضاء على الثقافة السياسية القائمة؟ لقد سر العديد منا لرؤية نهاية شخصيات مثل زين العابدين بن علي والقذافي وعلي عبدالله صالح، فهؤلاء وصولوا إلى سدة الحكم في أنظمة جمهورية عبر انقلابات ناعمة أو خشنة، لكنهم كانوا فاسدين استبدوا في السلطة لفترة طويلة جدا، واستخدموا القمع للحفاظ على كراسيهم، ولكن إزالة أنظمتهم السياسية نجم عنه فراغ كبير، فالثورات إزالت الثقافة السياسية القائمة برمتها، بشرها وخيرها. للوهلة الأولى لا يبدو أن هناك مشكلة، فستكون هناك انتخابات والناس سيختارون قادتهم الجدد، هذا ما حدث في فرنسا في 1789. ولكن هذه البلدان تفتقر إلى المؤسسات الديمقراطية، وإلى نهج واحد لتشكيل حكومة شرعية شعبية، وكانت النتيجة تصارع العديد من القوى المتنافرة على السلطة وعلى الطريقة التي ينبغي أن تدار البلاد، فكان هناك الإسلاميون، والمتشددون واليساريون والليبراليون والأخوان والعلمانيون وغيرهم. في الثورة الشيوعية في روسيا عام 1917 هزم لينين جميع منافسيه، وفي فرنسا استغرق الأمر عشر سنوات من الفوضى قبل أن يقوم نابليون بانقلابه، ونحن كثيرا ما ننسى أن الثورة الإيرانية عام 1979 م التي قام بها اليساريون والطلاب والقوميون والشيوعيون وغيرهم ركب عليها في نهاية المطاف آية الله الخميني الذي نجح في قمع جميع معارضيه بدموية تحت رداء الإسلام، واحتكر الثورة عندما سماها إسلامية، وأقيمت المحاكم الثورية لإعدام كل من هو غير إسلامي. سيسجل التاريخ صدام حسين باعتباره واحدا من أسوأ الحكام وأكثرهم وحشية، ولكن بالنسبة لمعظم العراقيين كان حكمه أفضل من الفوضى الدموية التي أعقبته، وكل واحد منا يحتقر بشار الأسد، ولكن معظم السوريين يرغبون لو يتمكنوا من العودة إلى زمن ما قبل عام 2011، فيما لم يجر في ليبيا تشكيل حكومة فعالة بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على سقوط القذافي. هذه ليست دعوة لإحياء الدكتاتورية، لكنها محاولة لإيضاح أنه بغض النظر عن مدى سوء النظام السياسي فإن الثورات تجعل الأمور أسوأ وتدفع بالملايين من المدنيين الأبرياء إلى الموت والنزوح والتشرد والمعاناة. نحن في البحرين لا زالت لدينا ذكريات قريبة حول دعوات من زعماء المعارضة إلى الثورة وإسقاط النظام الملكي، لكن ذلك كان سيجر علينا ويلات الكوارث بالنظر إلى الطبيعة الطائفية للمجتمع البحريني ونوايا إيران السيئة، ونحن الآن نشكر الله تعالى على تقلص طموحات المتشددين المعارضين، وأن حكام البحرين كانوا قادرين على ضمان الاستقرار والأمن، ودراسة مصير الثورات في أي مكان آخر يتيح لنا أن نقدر أننا نجونا بأعجوبة فعلا!. دروس من التاريخ تبين لنا أن التعافي من نوبات عدم الاستقرار الثوري تحتاج إلى عقود، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن لدول مثل اليمن وسوريا وليبيا والعراق أن تنهض مرة أخرى بعد أن تفككت ثقافاتها السياسية تماما. ربما يكون الحل هو أن ننظر إلى التاريخ ونفهم كيف تغلبت دول مثل أيرلندا الشمالية ورواندا وفيتنام وجنوب أفريقيا والجزائر ويوغوسلافيا السابقة على نوبات الصراع المدني وشرعت في عمليات المصالحة وبناء الدولة. إن تكاليف الفشل في تعلم هذه الدروس من التاريخ قد تكون مرتفعة للغاية.
مشاركة :