في مقالنا السابق، استعرضنا معالم المشهدين العالمي والإقليمي في تسوية المنازعات المرتقبة والناجمة عن الجائحة، وتم تحديد أطراف المشهد والتحديات، وحتمية التفكير في حلول وبدائل لفيروس مستجد، هو «جائحة منازعات». في هذا المقال، نتوقف عند أهم المحاور التي يتعيّن أن تسارع بنظرها الجهات التشريعية والمؤسسات العدلية في الدول العربية، إضافة إلى مراكز التحكيم والتوفيق والوساطة، لتحقيق المواءمة التشريعية والاستباقية التنظيمية لحوكمة آليات تسوية وفض المنازعات بكفاءة وفاعلية ومرونة، ونوجز ذلك في ثلاثة محاور أساسية.المحور الأول: استشراف الجهات التشريعية والعدلية في الدول العربية لدور جديد عبر مسارين: أولهما تفعيل منظومة الحلول البديلة أو المساندة أو الموازية للقضاء، والصادر بشأنها قوانين وقرارات ولوائح لم تحظَ برعاية تفعيلية كافية على مدار السنوات الماضية. والمسار الثاني، وبالتوازي مع الأول، تفعيل شراكات وتحالفات فاعلة ومحققة لنتائج وحلول واقعية، وكذلك شركاء العدالة الناجزة من مراكز التحكيم والوساطة وتسوية المنازعات، بهدف بناء منظومة تكاملية قائمة على خماسية: (أ) السرعة في البت، (ب) الفاعلية في الإجراءات، (ج) الكلفة المنخفضة، (د) الإتاحة عن بعد، وتفعيل التقنيات القانونية للخدمات القضائية الذكية، (هـ) تمكين سدنة العدالة القضائية والاتفاقية بكل أدوات الفصل في المنازعات في أقل أجل زمني والاستخدام الأمثل للمنصات الذكية والرقمنة العدلية.ولعل المثال الذي يمكن أن يُحتذى في هذا الصدد، هو أنموذج الوساطة في وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية، إذ تم تفعيل شراكة بين الوزارة والمركز السعودي للتحكيم، وتم إطلاق برنامج «الوساطة الطارئة في ظل جائحة كورونا» (EMP)، كخطوة استباقية في تقديم خدمات الوساطة لأطراف النزاع عن بعد للتقليل من آثار الجائحة على قطاع الأعمال. إن تلك الشراكة تعكس جدية المنظومة القضائية وفاعليتها في دعم ومساندة منصات الوسائل البديلة المساندة، وبثنائية عملية، قوامها «القضاء يقوى بالوسائل البديلة للتسوية، والوسائل البديلة تبقى بالقضاء»، حيث تقوم الوزارة بمراجعة واعتماد «محضر أو وثيقة الصلح»، ليصبح الـ«سند تنفيذي» بعد الاعتماد إلكترونيًا عبر منصة «تراضي»، وهذه آلية تشكل أحد أهم مقومات النجاح للأنموذج السعودي، الذي يمكن الاستفادة منه إقليميًا. كما أن تجربة محاكم دبي فى الإمارات العربية المتحدة جديرة بأن تكون ضمن الممارسات الريادية.والبيّنُ أن منازعات الجائحة تتطلب وبأقصى درجات المرونة والفاعلية، التكامل والتنسيق الفعّال بين شركاء تسوية وفض المنازعات قضائيًا وتحكيميًا وعبر الوساطة؛ لأن «المتنازعين» يبحثون وسط الجائحة عن آليات ذات موثوقية ومرونة وسرعة وفاعلية تتعامل بواقعية مع النزاعات التي أفرزتها الأزمة عبر تسوية قوامها «قاضٍ أو محكم أو وسيط أو مصلح»، لديه الأدوات التشريعية والتقنية والمرونة الفقهية في تفهم ضرورات الواقع المستجد مع موجبات الصلاحية والجدارة والحيدة والاستقلال والتخصص وتسوية نهائية لها حجيتها.المحور الثاني: إحداث نقلة نوعية في مسارات وآليات تمكين القضاة من التقنيات الحديثة والإتاحة المعرفية للأحكام والسوابق، وتوطين المعرفية القضائية، وكافة الأدوات التقنية لإدارة الدعاوى، وكذلك رفع معايير اختيار وتأهيل وتمكين المحكمين والوسطاء والمصلحين عبر منهجيات معرفية رصينة وشهادات دولية وحتمية الالتزام بميثاق أخلاقيات العمل، لتحقيق الغاية المنشودة من كفاءة وفاعلية منصات العدالة القضائية والاتفاقية. وهذا المحور يمكن تفعيله من خلال استحداث منصة إلكترونية معتمدة دوليًا، من حيث النماذج ومسارات التدريب وآلية الاختبار والتقييم.وتتطلب هذه النقلة التمكين العملي في مجالات استخدام التقنيات في تسوية المنازعات (Legal Tech)، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، وإدارة الجلسات، وسير إجراءات الدعاوى إلكترونيًا، وحتى إصدار الأحكام عن بعد. إن هذا المحور يعد أكثر المحاور أهمية؛ لأن أدنى متطلبات الجائحة أن تكون المحاكم ومؤسسات التحكيم والوساطة وكل من يعمل في تسوية المنازعات لديه رؤية شمولية، عنوانها: متحدون في عدالة ناجزة وسريعة، وبأقل كلفة، ووفق موجبات حسن العدالة، بصرف النظر عن تعدد المنصات والوسائل.ولعلَّ أقرب نموذج عدلي يمكن الاستفادة من ممارسته العدلية التكاملية الاستشرافية هو نموذج «سنغافورة»، القائم على ثقافة واحدة، ولغة مشتركة بين (قضاة المحاكم)، و(مراكز التحكيم والوساطة)، و(مجتمع الأعمال)، قوامها المساندة والتنسيق والتكامل لتحقيق هدف واحد؛ لهذا لم يكن مستغربًا أن تحتضن تلك الدولة الصغيرة نسبة تصل إلى (40%) لمنازعات تجارية لأطراف لا ينتمون إلى سنغافورة، بل ينتمون إلى كوريا الجنوبية والهند والصين ودول أخرى، نتيجة تلك التكاملية والفاعلية، وتعدد أبواب ووسائل العدالة في سنغافورة، والأهم ثقافة إيجابية تشاركية في تسوية المنازعات. المحور الثالث: تعزيز الوعي المجتمعي لدى شركاء المجتمع كافة مع متنازعين حاليين أو محتملين بالوسائل المساندة والموازية عبر مبادرات وأنشطة في وسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى وعي مجتمعي، خاصة بين الشركات المتوسطة والصغيرة، والشركات العائلة وقطاع المقاولات والأعمال، والتجزئة والتوريدات والإنشاءات، وغير ذلك من قطاعات باتت الآن بين «دائن» و«مدين»، أو مدعى ومدعى عليه، نتيجة تداعيات الجائحة.وبالتزامن يكون التركيز أيضًا على آليات «تفادي وقوع المنازعات» من خلال التوعية القانونية وبناء القدرات المؤسسية داخل الشركات، وهذا هو الدور المنشود الآن من مؤسسات العدالة؛ إذ يجب أن تساند مجتمع الأعمال ليس في التسوية ما بعد نشوء النزاع، ولكن في الإسهام في تفادي المنازعات، أو التقليل منها، وهذا يعد دورًا استشرافيًا أضحى يتصدر أجندة العديد من الدول الريادية في عالم ما بعد الكورونا. ختامًا، لا شك أن عالم تسوية المنازعات ما بعد الجائحة بات في حاجة إلى «فقه استثنائي»، و«نظرة استثنائية»، و«فاعلية استثنائية»، و«حلول استثنائية»، و«تكاملية استثنائية» بين كل شركاء منظومة العدالة الناجزة وتسوية المنازعات، وخاصة المدنية والتجارية. { وسيط تجاري ممارس ومعتمد (CEDR)- لندنemadkna@gmail.com
مشاركة :