بسبب تفشي فيروس كورونا وتحوله الى جائحة عالمية، شهد العالم بحلول مطلع شهر أبريل/2020، ظاهرة عالمية جديدة تمثلت بإغلاق المدارس والجامعات، وفرض منع التجمعات والفعاليات، وإغلاق تدريجي ثم شامل لمواقع العمل والمجمعات والاسواق الكبيرة. وفرض قيود على السفر على نطاق اقليمي وعالمي، وحيث ان التعافي لايزال محدودا وبطيئا ونسبيا، وبالتالي، فمن غير المرجح أن يؤدي إنهاء الإغلاق العام إلى عودة التفاعلات الاجتماعية والنشاطات الاقتصادية بذات الزخم والنمط اللذين كانا عليهما قبل الجائحة، بل من المحتمل استمرار التباعد الاجتماعي الطوعي لسنوات عديدة بشكل او باخر، سواء الناجم عن الخوف او نتيجة تطور الوعي الصحي، او تغير الثقافة العامة، نتيجة العادات والسلوكيات الجديدة التي نشأت في ظل الجائحة ومن جرائها، الامر الذي سيترتب عليه سياسات اقتصادية جديدة، وانماط استثمار ملائمة له، ستلجأ اليها القطاعات الاقتصادية لتفعيل نشاطاتها من جديد عبر إيجاد وسائل للعمل مترافقة مع قواعد التباعد الاجتماعي. لذا سيشهد العالم استمرار العمل عن بعد للعديد من الوظائف، وتنامي انجاز التعاملات المالية والمصرفية عبر الهاتف المحمول، والاعتماد على التجارة الالكترونية في التسوق، واعتماد البرامج الالكترونية في حجز المواعيد، والاستشارات، وانجاز المعاملات، واستمرار مؤتمرات الفيديو وعبر المنصات الافتراضية التفاعلية، فضلا عن اعادة تنظيم الجلوس في مختلف وسائط النقل الجوية والبرية والبحرية بما يحقق التباعد الاجتماعي المناسب لتجنب الاصابة بالفيروس، واعادة تصميم نظم الجلوس في القاعات الدراسية والمختبرات وورش التدريب في المدارس والمعاهد والكليات التي ستفتح ابوابها لاحقا. والامر ذاته مع المطاعم والمقاهي والمقاصد السياحية، والمسارح، وقاعات العرض السينمائية، والنوادي الصحية، واماكن الانتظار في المستشفيات ومحطات القطار وغيرها، التي ستشهد ارتفاعا في اسعار الخدمات التي تقدمها بسبب هذه الإجراءات، بالإضافة الى اعادة ترتيب مكاتب الموظفين في الشركات والمؤسسات المختلفة. الى جانب استمرار قطاع واسع من التعليم والتدريب عن بعد في العديد من المؤسسات التعليمية والتدريبية، وفي احسن الاحوال ستعتمد نظم التعليم المدمج (العملي والتطبيقي في ورش ومختبرات الجامعات، والنظري من خلال التعليم عن بعد). والتوسع والاستمرار في اعتماد التقنيات المالية واحلال الاقتصاد الرقمي، وبروز دور خدمات الروبوت، والخدمات اللا تلامسية، والتجارة الالكترونية، وتبني الخيارات التقنية في مختلف المجالات، وقد مثل هذا التوجه تحديا كبيرا للمجتمعات ترتبت عليه في ظل جائحة كورونا فرص نوعية لانطلاق وتوسع الانشطة الاقتصادية التي تناغمت معه واستجابت لمتطلباته، وتكاليف مالية واقتصادية جديدة تحملتها القطاعات الاخرى، وقد كانت الدول التي تمتلك بنية رقمية وتقنية متطورة قبل الجائحة هي الاكثر استثمارا لهذه الفرص والاقل تكلفة في التحول الواسع نحوها. وفيما يتصل بالقطاع السياحي فقد برزت اتجاهات جديدة منها أن مرحلة التعافي النسبي ستدفع الناس الذين اعتادوا السياحة الى التوجه للملاذات السياحية التي تجمع لهم بين غاياتهم السياحية مثل توفير الراحة والاستجمام، والتخفيف من الضغوط النفسية التي تسببت بها جائحة كورونا، مع الالتزام بمتطلبات التباعد الاجتماعي، والتعقيم والتطهير، واستخدام الكمامات، وغيرها من وسائل الوقاية. وهنا تظهر المنافسة الجديدة بين المقاصد السياحية في توفير متطلبات التباعد الاجتماعي عبر توفير الفضاءات الكافية التي توفر قدرا مناسبا من الخصوصية لممارسة الانشطة السياحية في بيئة امنة من الفيروسات والاوبئة سواء على الشواطئ البحرية او في المنتجعات الصحراوية او في قاعات الفنادق والمطاعم ومدن الالعاب، والحدائق والاسواق الشعبية والتراثية والمسارح وقاعات العروض الفنية ودور السينما وغيرها. هذه التغيرات في نمط المقاصد السياحية تقود الى اعادة هيكلة المقصد السياحي وموائمته معها بالشكل الذي يجعله مقصدا سياحيا ذكيا يلبي متطلبات السوق المتغايرة. كما ادت جائحة كورونا الى تعزيز مفهوم سياحة البدو/الرحل الرقميون (Digital nomad tourism) هذا المفهوم الذي ظهر قبل جائحة كورونا وكنتيجة لتطور نظم المعلومات والاتصالات الالكترونية، ظهر العمل عن بعد من خلال شبكة الانترنت وباعتماد اجهزة الحاسوب والهاتف النقال، مما اتاح لفئة الشباب الذين ينجزون اغلب اعمالهم من خلال هذه التقنيات (الشباب الرقميون) وقتا اكبر للتمتع بالسياحة والسفر وانجاز اعمالهم بالوقت نفسه. ويكون المقصد السياحي المفضل لديهم ذلك الذي تتاح فيه وسائل الاتصال ((WiFiconnection الافضل والاسرع والاقل كلفة والذي يمنح تأشيرة سياحية طويلة نسبيا (سنة مثلا). وفي ظل جائحة كورونا تعزز العمل عن بعد، ومن المتوقع ان تستمر العديد من الشركات الخاصة والهيئات العامة في العمل عن بعد بمستوى او اخر في مرحلة التعافي من الجائحة، لما يحققه من وفورات اقتصادية ومالية، ووصول اسرع للعمل للعمال الذين لا يعيشون في نفس المدينة، ونوعية حياة أفضل بسبب عدم الحركة في أوقات الذروة، واختيار الساعات الانسب للعمل، وحرية ممارسة الهوايات، وقضاء وقت ممتع بالإضافة الى ما يحققه من وقاية صحية من الفيروسات والاوبئة. كما ان قطاعا واسعا من العاملين لحسابهم الخاص مثل الكتاب والمترجمين ومديري وسائل التواصل الاجتماعي والمدونين والمحللين والاستشاريين، والمسوقين للغير، وغيرهم الكثير، يمكنهم القيام بعملهم من أجهزة الكمبيوتر، والهواتف المحمولة الخاصة بهم، دون وجود مادي في مكان العمل، مما يتيح لهم الفرصة للسياحة والسفر. ويتوقع ان يبلغ عدد الرحالة الرقميين عالميا نحو مليار فرد بحلول عام 2035، مما يتيح فرصا واسعة لتفعيل السياحة في العالم وتعويضها عن الركود الذي شهدته. وقد سارعت العديد من الدول السياحية للاستعداد لذلك عبر تطوير تشريعاتها بحيث تكون مدة التأشيرة السياحية سنة واحدة، وتسمح بالعمل عن بعد، وتطوير مقاصدها السياحية بحيث توفر مكاتب صغيرة مزودة بإنترنت عالي السرعة، وبأسعار تنافسية، وبيئة جاذبة، ومحفزة لإطلاق الطاقات وانجاز العمل عن بعد. وللموضوع بقية في مقال قادم إن شاء الله. { أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :