بات واضحا أن الخوارزميات قادرة على التفوق على البشر في أكثر من حقل، بدءا بالشطرنج، ووصولا إلى قراءة الأفكار، حتى البورصة هناك تجارب أولية أثبت الذكاء الاصطناعي قدرته فيها على أن يشكل منافسا حقيقيا للمضاربين، ويتخذ قرارات بيع وشراء، بالاعتماد على النظم التي يتبعها المحترفون في وول ستريت. قلق أصحاب الياقات البيضاء من تصاعد هيمنة التكنولوجيا الرقمية له ما يبرره، فهي تثبت قدرتها يوما إثر يوم على منافسة المحترفين، ولن يكون مستبعدا أن نرى تطبيقاتها مستقبلا تحل مكان المحامين والمدعين في جلسات المحكمة، ولم لا؟ يمكن أيضا أن تشغل منصب القضاء. لنتخيل القدرة الخارقة لمنظومات الذكاء على حفظ كمية هائلة من القوانين، وقدرتها على استرجاع هذه القوانين والسوابق القضائية بسرعة مدهشة. وإن نحن أضفنا إلى ذلك قدرة هذه التكنولوجيا على قراءة الأفكار، سيمنحها هذا ميزة في اكتشاف الكذب، سواء صدر عن المتهم أو الشهود، ولن نستبعد لجوء المحققين قريبا إلى الاستعانة بهذه الميزة في استكمال تحقيقاتهم. آلة تمتلك المشاعر هل هناك حدود يقف عندها الذكاء الاصطناعي عاجزا عن مجارات البشر، وتجاوزهم. حتى هذه اللحظة يبدو الجواب لصاح الخوارزميات. لم يترك الذكاء الاصطناعي حقلا من حقول المعرفة والعلم إلا وغزاه، وبدت قصص الخيال العلمي، ومعها سينما الخيال، ساذجة مقارنة بما تم إنجازه حتى هذه اللحظة. طموح العلماء لا يتوقف عند حد، فهم يتحدثون عن إمكانية تصنيع عقل ذي ذكاء خارق يفوق القدرة البشرية، والأخطر حديثهم عن الوعي الاصطناعي، وبتعبير آخر الشعور. وإن صح ما يتنبؤون به، يكون بذلك قد انهار آخر جدار مقاومة بين الإنسان والآلة. هناك من يقول إن الأجيال القادمة ستتذكر الحديث عن آلة تمتلك مشاعر، وإن هذا ليس مجرد شطحة من شطحات الخيال، بل هو واقع سيؤدي حتما إلى اضمحلال دور البشر. بل يمكن أن يؤدي وفق عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكنغ إلى سيطرة الآلة، و”يؤذن بنهاية الجنس البشري”. ألون مسك، مؤسس شركة “تسلا” لإنتاج السيارات الكهربائية، يذهب أبعد من ذلك، مشبها الآلات التي تمتلك وعيا ومشاعر بـ”الأسلحة النووية” و”الشيطان”. كم سنة ستحتاج البشرية قبل أن تشهد هذا السيناريو الأشبه بالكابوس؟ ليس طويلا، معظم العلماء الذين طرح عليهم السؤال حددوه بثلاثين عاما فقط. أي نوع من الوعي يمكن أن تمتلكه الآلة؟ أي نوع من الوعي يمكن أن تمتلكه الآلة؟ ماذا يعني أن تمتلك الآلة وعيا ومشاعر؟ هل هي خطوة أبعد من التفكير؟ وهل ستقود إلى أن يطرح الذكاء الاصطناعي أسئلة وجودية، أي أن تصبح الآلة فيلسوفا؟ للإجابة على هذا السؤال، علينا أولا أن نحدد خصائص التفكير الفلسفي، وأولاها التفكير النقدي، القائم على الشك المنهجي، هناك إجماع على أن التفكير لا يبدأ إلا بالشك. والشك لا يكون بالنفي والإنكار، بل يدعو إلى التروي قبل إصدار الحكم. أي أن الشك يمنح الفكرة فرصة لمعرفة الحقيقة، والوصول إليها. الشك عند الفلاسفة شك بناء، هو حب الوصول إلى الحقيقة الذي دفع أرسطو إلى القول “أحب الوصول إلى الحقيقة أكثر من حبي لأرسطو”. الخاصية الثانية للتفكير الفلسفي هي التجريد، أي أن يقوم التفكير الفلسفي على دراسة المفاهيم العامة المجردة، والفلاسفة في هذا على نقيض من العلماء الذين يقوم بحثهم على المفاهيم المادية الواقعية. ومن هنا جاء القول بأن الأحكام الفلسفية هي أحكام وجودية مجردة، وبذلك كان اختلافها عن التفكير العلمي، الذي يدرس الظاهرة الطبيعية. والتفكير الفلسفي هو علم الكليات. الفيلسوف عند دراسته للإنسان، لا يفكر فيه ككائن حيّ بيولوجي فقط، أو أنه قابل للتجربة والملاحظة، إنما يدرسه من حيث مفاهيم الكينونة والماهية. وعي المستقبل باختصار، التفكير الفلسفي هو مجموعة من المفاهيم المجردة والعامة، يهتم بالمحاكمات العقلية، ولكن ليس من ناحية الموافقة للعقل، أو تطابق العقل فيها مع نفسه، لذلك نجد الفلسفة بحد ذاتها عبارة عن فلسفات من ناحية المنطلقات، وبأنها ليست واحدة، لذا فالنتائج الفكرية الفلسفية، نتائج متعارضة ومتباينة ومتناقضة. بينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على خوارزميات الشبكة العصبيّة التلافيفية، التي ساهمت في تمكين أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكيّة من التعرّف على الوجوه والأجسام الأخرى. وهي شكل من أشكال خوارزميّة التعلّم العميق لدراسة كيفيّة معالجة الدماغ للصور الثابتة وغيرها من المحفّزات البصريّة. وهي كلها عناصر موجودة فعلا في الواقع، سواء كان وجودها معرفيا أو ماديا. دعونا نبسط الأمر، الذكاء الاصطناعي المعتمد على الخوارزميات، ذكاء قائم على التجربة، وعلى تحليل البيانات وفق نظام محدد سابقا، لم يتجاوز حتى هذه اللحظة أساليب التحليل العلمي، بينما تعتمد الفلسفة مبدأ الشك، والتناقض. لا يكفي الذكاء الاصطناعي أن يقول أنا أفكر إذن أنا موجود، شرط الوجود هو الشك، وشرط الشك هو أن تحيا في المستقبل لم تسجل حتى الآن أي محاولات، ولو من بعيد، برهن فيها الذكاء الاصطناعي قدرة على تبني المنطق الفلسفي في تفكيك الواقع وإعادة بنائه من جديد. أي نوع من الوعي يمكن أن تمتلكه الآلة؟ هنا يجب التفريق بين الوعي وتقديم النتائج وفقا لبيانات وتجارب تستند إلى الماضي، ولا يمكن النظر إلى تلك النتائج باعتبارها وعيا للمستقبل، بل هي مجرد استنتاجات تجعل الحياة سهلة على الجميع. لا يكفي الذكاء الاصطناعي أن يقول أنا أفكر إذن أنا موجود، شرط الوجود هو الشك، وشرط الشك هو أن تحيا في المستقبل. في سعي البشر المحموم للبحث عن الحقيقة اخترعوا الآلاف من الأساطير والآلهة، أيّ أساطير يمكن للآلة أن تخترعها؟ وإن نجحت في اختراعها هل ستتعامل معها على أنها حقيقة؟ الجواب الفلسفي على ذلك هو الشك، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، وهذا أمر مشكوك فيه أيضا. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :