لولا لبنان، هذا البلد الصغير، ولولا بيروت، هل كان في العالم العربي اليوم إعلام متطور، وموسيقى متطورة؟ لقد كانت بيروت سفيرة العالم العربي إلى العالم، في الموضة والفن والطعام وحسن الضيافة، فلماذا يكتب عليها أن تعيش محنة إثر أخرى؟ كل شيء في لبنان، الذي سكنته الغربان مهيأ لكارثة، قد تحدث في أي لحظة، وحصلت الكارثة وكانت مؤلمة جدا. ولكن، إلى أن تكتمل التحقيقات سنقبل أن ما حدث هو مجرد قضاء وقدر. هل هجر الله سماء بيروت، هل تخلى عن لبنان واللبنانيين، بعد حرب أهلية استمرت 15 عاما، بدأت عام 1975 وانتهت عام 1990، وفي مارس 1991، سنّ البرلمان قانونا للعفو عن جميع الجرائم السياسية، وفي مايو من نفس العام حلت الميليشيات، باستثناء حزب الله.. حزب البوم والغربان. وصرخ وديع الصافي طالبا من الرب أن ينقذ لبنان، وألا يتخلى عنه ويهجره، فلبنان مثخن بالجراح، بعد حرب التهمت حياة 120 ألف قتيل. الله لم يتخل تماما عن لبنان، أرسل إليه من بين أبنائه من يعمل صادقا ليعيد إعماره ويبنيه بالمرجان والصوان، ويرجع إلى إنسانيته؛ يرجعه لبنان إلى سابق عهده. المنقذ هو رفيق الحريري، الذي لعب دورا مهما في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية وإعادة إعمار لبنان. قام الحريري بالعديد من الأعمال الخيرية، كان أشهرها تقديم منح طلابية للدراسات الجامعية لأكثر من 36000 شاب وشابة، من كل الطوائف اللبنانية، على مدى 20 عاما. عرف الحريري بعصاميته، فهو لم يرث المال ولا السلطة كما معظم سياسيي لبنان، وأصبح أحد أغنياء العالم نتيجة جهده الشخصي. تولت حكومته مسؤولية إعادة إعمار لبنان وتأهيل المدينة وبخاصة وسطها التجاري وواجهتها البحرية وملاهيها الليلية، مما أعاد تألق سياحتها وجعلها مقصدا سياحيا جذابا. ولم تتردد صحيفة نيويورك تايمز بمنح بيروت المركز الأول بين قائمة الأماكن التي ينبغي زيارتها في سنة 2009، كما تم تصنيفها من ضمن المدن العشرة الأوائل الأكثر حيوية من قبل دليل لونلي بلانت السياحي. وكشف مؤشر “ماستر كارد” لعام 2011، أن بيروت استأثرت بالمركز الثاني من حيث نسبة البذخ السياحي بين جميع مدن الشرق الأوسط وأفريقيا. أما المركز الأول فاحتلته دبي، التي بلغ مقدار ما صرفه فيها السوّاح حوالي 7.8 مليار دولار، تليها بيروت مباشرة بحوالي 6.5 مليار دولار، ثم تل أبيب بحوالي 3.8 مليار، ثم القاهرة 3.7 مليار دولار. كذلك صنفت بيروت في المرتبة التاسعة بين قائمة أكثر المدن زيارة في العالم. وما كان لهذا كله أن يحصل لولا الحريري الذي تصدى لإنقاذ لبنان من محنته، ولكن الغربان التي عششت في سماء بيروت لم يعجبها نجاحه، فهي لا تطيق العيش في بلد هادئ ومستقر، الغربان تفضل الخراب. وهذا ما حصل. قرروا اغتيال رفيق الحريري، واختاروا أن يكون مشهد القتل مروعا لإخافة اللبنانيين، لم يستخدموا قناصا لتنفيذ العملية، بل متفجرة تزن أكثر من 1000 كيلوغرام من التي أن.تي. اغتيل رفيق الحريري يوم 14 فبراير 2005، وسبَّبَ اغتياله قيام ثورة الأرز، التي أخرجت الجيش السوري من لبنان، وأدت إلى قيام محكمة دولية من أجل الكشف عن القتلة ومحاكمتهم. قبل بضعة أيام من جلسة إعلان الحكم في مدينة لاهاي، حدث حريق في ميناء بيروت، كان هناك انفجار أولي كبير أعقبته سلسلة انفجارات صغيرة بدت بحسب بعض شهود العيان أشبه بالألعاب النارية. وبعد نحو 30 ثانية، حدث انفجار مهول أرسل في الهواء سحابة ضخمة على شكل فطر، وانتشر عصفه ودويه في المدينة. وأدى الانفجار الثاني إلى تدمير البنايات القريبة من المرفأ، وتسبب في دمار وأضرار في الكثير من أحياء العاصمة الأخرى، التي يقطنها نحو مليوني نسمة. وغصت المستشفيات بسرعة بضحايا الانفجار من جرحى وقتلى. وقال محافظ بيروت، مروان عبود إن عددا كبيرا من السكان يصل إلى 300 ألف نسمة باتوا بلا مأوى مؤقتا، وقد يصل مجمل الخسائر إلى نحو 10 إلى 15 مليار دولار. دمر الانفجار منطقة رصيف الميناء، وخلف حفرة بلغ عرضها 140 مترا. وقد سويت بالأرض المستودعات التي اشتعلت فيها النيران والانفجاريات لاحقا، كما تعرضت أهراءات الحبوب المجاورة لها إلى أضرار كبيرة. وأظهرت صور الأقمار الاصطناعية مشهد دمار كبير في منطقة الميناء، وبدت إحدى السفن فيها وقد قذفت خارج مياه البحر وسقطت على الرصيف من شدة عصف الانفجار. وقد تكسر من جراء دوي الانفجار زجاج النوافذ في بوابة المسافرين في مطار بيروت الدولي الواقع على بعد نحو تسعة كيلومترات عن موقع الانفجار في مرفأ بيروت. وسُمع دوي الانفجار في جزيرة قبرص الواقعة على بعد 200 كيلومتر في البحر المتوسط. وقال خبراء الزلزال في مركز المسح الجيولوجي في الولايات المتحدة إن قوة الانفجار تعادل هزة أرضية بدرجة 3.3 على مقياس ريختر. المسؤولون اللبنانيون ألقوا باللائمة على انفجار 2750 طنا من مادة نترات الأمونيوم، التي يقال إنها خُزنت بطريقة غير آمنة في مستودع في الميناء. وكانت مرمية هناك من عام 2013، بعلم الغربان وموافقتهم. ولكن لماذا اختاروا لبنان، كي يغتالوه ألف مرة ومرة؟ لماذا اختاروا “قطعة من سما” ليحيلوها إلى جحيم؟ الجواب واضح لا يحتاج إلى الإمعان بالتفكير. إنهم غربان، أعداء لكل ما هو جميل، وأعداء لكل المظاهر الحضارية، بالغريزة والفطرة والأيديولوجيا، التي تسيطر على عقولهم. مأساة لبنان وبيروت بدأت عام 1956، عندما رفض الرئيس اللبناني كميل شمعون قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الغربية التي هاجمت مصر أيام أزمة السويس والعدوان الثلاثي، مما أثار غضب الرئيس المصري جمال عبدالناصر. وزادت حدّة التوتر عندما أعلن شمعون تقربه من حلف بغداد الذي اعتبره عبدالناصر تهديدا للقومية العربية. وعند قيام الوحدة بين مصر وسوريا باسم الجمهورية العربية المتحدة، دعم رئيس الوزراء اللبناني رشيد كرامي جمال في 1956 و1958. طالب اللبنانيون المسلمون من الحكومة اللبنانية الانضمام للوحدة بينما أراد المسيحيون التحالف مع الدول الأوروبية. وحصل تمرد مسلح، وكان المتمردون قد حصلوا على السلاح من الجمهورية العربية المتحدة عن طريق الإقليم الشمالي، سوريا، مما دفع كميل شمعون لتقديم شكوى لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي 14 يوليو سقطت الحكومة الملكية في العراق، فحصل عدم استقرار داخلي في لبنان، طلب عندها شمعون المساعدة من الولايات المتحدة. استجاب الرئيس الأميركي أيزنهاور لطلب شمعون في ما سمي بعملية الخفاش الأزرق في 15 يوليو 1958. اعتبرت أزمة 1958 بمثابة التهيئة للحرب الأهلية، بدأ بعدها التصادم المسلح بين الجيش اللبناني ومسلحين فلسطينيين في عام 1973، خاصة بعد رفض لبنان لقرارات مؤتمر القمة العربية في شأن الفلسطينيين. فضائل بيروت أعداء النور وعشاق العتمة لم يعجبهم أن تكون بيروت عاصمة للأنوار، وتفرغوا يحيكون لها الدسائس والمؤامرات. تعالوا بجولة قصيرة نتعرف على المدينة التي أثارت كراهيتهم. تعالوا نعدد أفضال بيروت على العالم العربي وعلى العالم. نبدأ بالصحافة والإعلام، حيث شهدت بيروت صدور أول صحيفة سياسية لا تمثل السلطة في المشرق العربي، وهي جريدة “حديقة الأخبار” للصحافي خليل الخوري، مطلع يناير 1858، أي قبل نحو قرن ونصف القرن، وقبل هذا التاريخ بنحو ثلاث سنوات وتحديدا في العام 1855، وصف اللبناني رزق الله الحلبي بإمـام النهضة الصحافية لإصداره أول جريدة باللغــة العـربيـة أسماهـا “مرآة الأحـوال”، ثم أصدر المعلم بطرس البستاني صحيفة “نفير سوريا” في العام 1860 في بيروت، وكانت تدعو إلى الوحدة الوطنية إثر مذابح 1860 الطائفية. ما يعنينا هنا ليس تاريخ الصحافة التي لا ينازع بيروت أحد عليه، اللبنانيون لم يتوقفوا منذ منتصف القرن التاسع عشر عن تصدر الساحة الإعلامية، ليس فقط في التحرير وكتابة التقارير والرأي، بل أيضا في التصميم والتسويق والإعلانات، حتى بات نجاح أي مغامرة إعلامية مرهونا بالاعتماد على كفاءات لبنانية. وعندما بدأت موجة البث الفضائي، كان اللبنانيون في صدارة المشهد، وأفضالهم في هذا المجال على معظم المشاريع الإعلامية لا يمكن حصرها. الشيء نفسه ينطبق على صناعة الكتاب. وهم فوق ذلك كله ملوك التسويق والإعلان. وبينما سارت القاهرة التي تنافس بيروت في طريق شعبي اغفل عامل الجودة، أصرّ الناشر اللبناني على إتقان العمل وتقديمه بمستوى لا يقل عن مستوى نظرائه الأوروبيين. وإن تعددت المشاريع التي يمكن الاستشهاد بها إلا أننا سنكتفي بمثال واحد ولكنه مثال عميق الدلالة، هو مجلة شعر، التي أسسها الشاعر اللبناني يوسف الخال، وترأس تحريرها، وقد صدر العدد الأول من المجلة في شتاء 1957، في بيروت، وكان الخال قد عاد نهائيا من الولايات المتحدة عام 1955، حاملا مشروع تأسيس مجلة تعنى بالشعر الجديد، فبدأ بإصدار مجلة شعر مستوحيا فكرتها من الشعر الأميركي. ولم يكن اسمها عبثا، إذ أنه يحاكي اسم مجلة “شعر” الأميركية، وقد أراد مؤسسها يوسف الخال أن يؤدي فيها الدور الذي مارسه عزرا باوند في “شعر” الولايات المتحدة الأميركية. أما الذين شكلوا نواة تجمع مجلة “شعر”، بالإضافة إلى يوسف الخال، فهم أدونيس، خليل حاوي، ونذير العظمة، وانضم إليهم لاحقا، أسعد رزوق، أنسي الحاج، خالدة سعيد، شوقي أبي شقرا، وعصام محفوظ، فضلا عن آخرين من أمثال محمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا وفؤاد رفقة. وكما ارتفع اللبنانيون بالذائقة الشعرية والأدبية في الشارع العربي، لعبوا أيضا دورا مماثلا في الموسيقى والغناء. واكتفى المصريون بالتنحي جنبا، وإعطاء الدور لعمالقة الطرب اللبناني يقودون السفينة، ويحدثون الأغنية العربية من ناحية المضمون ومن ناحية الشكل. ليست الأصوات وحدها هي ما قدّمه اللبنانيون للأغنية العربية، فإلى جانب قافلة من الأصوات، بدءا بفيروز وانتهاء بماجدة الرومي، أوجد اللبنانيون لأول مرة ما بات يعرف بصناعة الموسيقى والأغنية العربية. وكان للفن التشكيلي نصيب، أسماء كبيرة أضاءت الفضاء، بدءا من المجموعة الأولى بواقعيتها: نعمة الله المعادي، داود القرم، حبيب سرور، جبران خليل جبران، خليل الصليبي، فيليب موراني، رئيف شدودي، مكاروف فاضل، يوسف الحويك، قيصر الجميل، صليبا الدويهي، عمر الأنسي، مصطفى فروخ، رشيد وهبي، ميشال بصبوص… تتبعهم أجيال العشرينات، الثلاثينات، الأربعينات، الخمسينات، الستينات والسبعينات، وصولا إلى الفنانين الجدد الذين أسهموا في تطوير الحركة الفنية التشكيلية، والذين حملوا الفن التشكيلي اللبناني، وأحلوه مركزا متقدما ومميزا على الصعيدين المحلي والعالمي، وتحولت معهم مدينة بيروت إلى عاصمة لدور العرض يقصدها الفنانون العرب، فمنها وحدها يمكن لهم أن يتذوقوا طعم النجومية والعالمية. “إلى بيروت” أضحى لهذه العبارة سحرها الخاص بالنسبة لأجيال من الفنانين العرب، بمختلف مشاربهم، إن هم أرادوا الخروج من المحلية إلى العالمية. هذه القدرة على التسويق لدى أهل بيروت لم تقتصر على الفن، ليشتهر اللبنانيون عالميا وتقصدهم دول وحكومات وشركات عملاقة طلبا لخبراتهم في إدارة المشاريع. إن نسي العالم اسم رجل الأعمال اللبناني نقولا الحايك، فإن السويسريين لن ينسوا هذا الاسم، فهو الرجل الذي أنقذ بذكائه وجرأته صناعة الساعات السويسرية، وذلك عندما تبنت هذه الصناعة العريقة فكرته بابتكار ساعة “سواتش”. ينحدر الحايك من عائلة لبنانية، رحل إلى الولايات المتحدة ودرس الإلكترونيك في “جامعة شيكاغو”، ومنها سافر إلى فرنسا حيث تخرج ببكالوريوس كيمياء وفيزياء من “جامعة ليون”. “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”. مؤكد أن الله سيحب اللبنانيين، لأن اللبناني يتقن عمله، وواحد منهم هو كارلوس غصن، الذي انضم بعد تخرجه من برامج الهندسية النخبوية في فرنسا، إلى شركة الإطارات الفرنسية ميشلان. من هناك، شق طريقه من خلال أدوار مدير المصنع وأدوار القيادة البحثية، حيث كُلّف في نهاية المطاف بإصلاح عمليات الشركة في أميركا الجنوبية. وقد سمحت له سمعته في النهاية بالظفر بوظيفة الرئيس التنفيذي لشركة رينو، التي حققت أرباحا قياسية خلال عامين، وساعد الادخار في التكاليف جراء تبسيط الإنتاج وإدخال التحول الصناعي الثالث، الشركة على زيادة أرباحها بشكل كان كافيا لشراء حصة تبلغ 37 في المئة من شركة نيسان. وفي الوقت الذي كان فيه الاقتصاد العالمي يكافح للنجاة، عادت شركة نيسان لتحقق أرباحا مهمة. وبينما كان التحالف بين نيسان ورينو في طور الازدهار في 2010، كانت رواتب غصن تزداد يوما بعد يوم لتصل إلى أكثر من 15 مليون دولار سنويا، متفوقا على جميع المديرين التنفيذيين لصناعة السيارات. اللبناني لا يرضى إلا بالأفضل، وهكذا كانت بيروت، فيها تجد أفضل مطعم وأفضل لباس وأفضل خدمات. إنها الأفضل في كل شيء، حتى في الاحتيال، الذي انتهى بكارلوس غصن متهما هاربا من القضاء. بيروت التي مزقتها التفجيرات، وكان آخرها التفجير الذي حصل في الميناء منذ بضعة أيام، هجرها الجمال، وهي التي كانت قد أهدت العرب ملكة جمال، توجت على الكون عام 1971، هي جورجينا رزق. هل ستهزم بيروت ويهزم أهلها ويهزم معهم العالم أمام ثقافة الكره وثقافة الغربان، أم تخرج بيروت ومعها لبنان والعالم منتصرين. هذا سؤال لا يستطيع أهل بيروت وحدهم الإجابة عليه، على العالم أجمع أن يشارك في الإجابة، ويكنس شوارع بيروت من ثقافة الغربان والبوم. عدد اللبنانيين داخل لبنان 4 ملايين، وعددهم في بلاد المهجر والاغتراب 18 مليونا، جميعهم ينتظر اليوم الذي يغادر فيه الغربان سما بيروت، ليشدوا الرحال عائدين إليه لإعماره.
مشاركة :