تفجرت قرائح النساء ومواهبهن أثناء فترة الحجر المنزلي فتمخض عنها العجب العجاب، وخصوصا في خياطة الكمامات، التي أصبحت تباع في المدن العربية خلسة وبأسعار خيالية، لكن معظم النساء أدركن أنه يتعين عليهن خوض معركة حماية عائلاتهن ضد الوباء بأنفسهن، بدلا من اللهاث في الأسواق واقتنائها بأثمان باهظة. ولأن الحاجة أم الاختراع كما يقال دائما، قامت امرأة في إحدى قرى محافظة الكاف (شمال تونس) باقتسام حمالة صدرها بينها وبين زوجها وصنعت لكل جانب منها أشرطة مطاطية في الأذن لتكون على شكل كمامة، ولعلها استقت الفكرة من مواقع التواصل الاجتماعي حيث أظهرت الكثيرات براعتهن في صناعة كمامات متنوعة مما توفر لديهن في البيت من أقمشة وقطع ثياب مهملة، ووصل الأمر إلى حد استخدام حمالات الصدور والتبانات وكل ما توفر من خامات في البيت. لكن يبدو أن شطارة تلك المرأة التونسية تحولت إلى طامة كبرى، إذ أصبحت هي وزوجها موضع تهكم وانتقاد لاذع أثناء ارتدائهما لتلك الكمامات في أحد مراكز البريد بمنطقتهما وتعرضا للسخرية، وقد وصل الأمر إلى حد اللعن من قبل البعض، وكأنهما اقترفا جرما مشهودا أو ارتكبا خطيئة لا تغتفر. قصت علي أختي تفاصيل هذا المشهد حيث كانت حاضرة، وبدا بالنسبة إلى جميع من كان هناك، محل استهجان ورفض، فضحكت حتى اغرورقت عيناي بالدموع، وفي الوقت نفسه تأسفت كثيرا على هذه الحادثة التي أضفى عليها البعض طابعا جنسيا وتحريميا، ولم ينظر إليها على أنها سيدة حملت على عاتقها مسؤولية إيجاد حل لحماية نفسها وزوجها من الوباء بتكلفة بسيطة. الفكرة طبقتها النساء أيضا في الغرب ولم تشهد كل هذا الحنق، ولكنها بدت غريبة عن الثقافة العربية، لأنها عكست الكثير من القضايا الخاصة بالجنس والأخلاق الحميدة، رغم أن الملابس الداخلية للنساء والرجال على حد سواء، قد أصبحت تباع وتشترى على قارعة الطرقات في العديد من الأسواق العربية. أعتقد أن “الإيحاء الجنسي” الذي تعكسه الملابس الداخلية للمرأة، قد أصبح شيئا من الماضي، كما أن المرأة التونسية التي ارتدت هي وزوجها كمامة فصلتها من حمالة صدرها لا يبدو أنها كانت تتقصد إثارة حفيظة الذين اعتبروا كمامتها خادشة للحياء واعتدت على أخلاقهم الحميدة، وارتعدت فرائصهم لرؤية مشهد طبيعي، بل هو يعكس حقيقة أخرى وهي أن شكل الكمامة قابل للتغيير والتبديل، أما جوهر الناس فلا يحتمل أي عمليات ترميم. أستحضر هنا مقولة شائعة للفيلسوف الفرنسي فولتير “الآداب العامة ليست عامة بما يكفي دائما”، ومشكلتنا في المجتمعات العربية دائما تلك المظلة العامة، التي يوظفها البعض بشكل لا يحتمل من أجل تبرير تعديهم على الحريات الشخصية لغيرهم، ومثل هذا الأمر لا معنى له تماما ومبالغ فيه إلى أبعد الحدود. للأسف هناك الكثيرون في مجتمعاتنا العربية ممن ما زالوا ينصبون أنفسهم حراسا للأخلاق العامة، ويفتشون في ضمائر الناس ونواياهم، ويتجاوزون حدود حريتهم الشخصية لينتهكوا حقوق غيرهم. بالمقابل لم ألحظ أي شخص قد علق على البريطانيات اللواتي شاهدتهن في محلات البقالة يرتدين كمامات تحمل أشكالا ورموزا وإيحاءات مختلفة، دون الاكتراث بالأعين التي تتلصص النظر إليهن، ربما إعجابا أو تعجّبا من كماماتهن.
مشاركة :