يبدو أن قضاء إجازة صغيرة على شاطئ البحر، وأخذ قسط من الراحة بعيدا عن أجواء العمل والمنزل حلم جميل، لكن يصعب تحقيقه بالنسبة إلى معظم سكان مدن الشمال الغربي للبلاد التونسية وقراه. ففي الوقت الذي يقرر فيه البعض حزم حقائبه والسفر إلى العاصمة أو إحدى المدن السياحية لقضاء بضعة أيام في إجازة، فإن السواد الأعظم يعيش في دائرة من الروتين اليومي والضغط بسبب تصاعد نسق حرارة الصيف وعدم قدرتهم المادية على التمتع بفترة قصيرة من الراحة والاستجمام، بعيدا عن مسقط رأسه، الذي تنعدم فيه أبسط وسائل الترفيه بسبب الإهمال والتهميش، رغم ما تزخر به من معالم أثرية وطبيعية. يتذمر الكثير من التونسيين القاطنين في إقليم الشمال الغربي، من ضيق خيارات وسائل الترفيه وانعدام الخدمات في المدن والقرى التي يعيشون فيها، وتصاعد نسق درجات حرارة فصل الصيف، فيما لا تسعفهم مداخيلهم المادية لتغيير روتين حياتهم اليومي والتمتع بإجازة على الشاطئ أو في أحد المنتجعات السياحية بعيداً عن أجواء المنزل. وتغيب عن معظم هذه المناطق أبسط مرافق الترفيه، رغم ما تحتوي عليه من معالم أثرية وغابات شاسعة قادرة على جعلها وجهة سياحية متميّزة، إلّا أنها لازالت خارج دائرة الاستغلال السياحي من قبل الحكومة التونسية. ويوجد في الشمال الغربي قطب طبرقة – عين دراهم التابع لمحافظة جندوبة، ويحتوي على عدة وحدات فندقية وأنشطة سياحية وترفيهية، لكن معظمها يواجه الغلق المتواصل بسبب وباء كورونا، والإهمال وتردي الخدمات التي لا ترتقي الى مستوى ما تمتلكه هذه الجهة من مقومات سياحية متميزة. وهناك قطب سياحي تاريخي آخر وهو مائدة يوغرطة بمحافظة الكاف، ويعود تاريخها إلى بداية تأسيس مملكة نوميديا الأمازيغية سنة 202 قبل الميلاد، وقد أدرجتها منظمة اليونسكو في اللائحة التمهيدية للتّراث العالمي، كما توجد في محافظة الكاف العديد من المعالم الأثرية الأخرى الهامة، وحتى المنجمية التي صارت اليوم من أهم الوجهات السياحية في دول أخرى ومع ذلك لا يرتادها السياح ولا حتى أبناء البلد لانعدام الخدمات والمرافق الضرورية. يلقي سكان الشمال الغربي باللوم على الحكومة التونسية لافتقارها إلى خطط لتنشيط السياحة في مناطقهم وإنقاذ التراث المعماري، المهدد بالانقراض بسبب انعدام برامج الترميم وصيانة هذه الثروات البيئية والتاريخية والثقافية التي من شأنها أن تحدث حركية اقتصادية تخرج المنطقة من عزلتها وتعم فائدتها على الأهالي وعلى البلاد بشكل عام. واعتبر عبدالعزيز القيزاني (مدرس تعليم ثانوي) أن محافظة الكاف، لا تختلف أوضاعها كثيرا عن بقية محافظات الغرب التونسي وما تعانيه من ظروف معيشية واقتصادية واجتماعية وثقافية صعبة، إلى درجة أنه قد أطلق عليها في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة “مناطق الظل”، وظلت هذه التسمية مستعملة حتى في زمن الرئيس زين العابدين بن علي، لكن تم تحسينها لاحقا لتصبح “مناطق داخلية”. وقال القيزاني لـ”العرب”، “الشمال الغربي يحتوي على ثروة كبيرة من المعالم الأثرية والبيئية التي لا تقدر بثمن، ولكنها مهمشة، فضلا عن أن سكان هذه الجهات يعانون ظروفا معيشية قاسية دفعت معظمهم إلى الهجرة نحو العاصمة والمدن الساحلية الكبرى طلبا للعمل والاستقرار هناك، ما أفرغ الارياف التي كانت تمثل خط الدفاع الأخير للمنطقة من اليد العاملة، ناهيك عن عجز الحكومات المتعاقبة قبل ثورة يناير 2011 وبعدها عن إيجاد حلول لهذا الوضع المتأزم الذي فاق قدرة سكان الشمال الغربي على التحمل”. وأضاف “النشاط الترفيهي والثقافي يكاد أيضا ينعدم بهذه الجهة، فدور الثقافة ونوادي الشباب والأطفال والمكتبات العمومية عبارة عن بنايات مقفرة، وفي أحسن الأحوال يرتادها البعض، لكنهم لا يجدون فيها الأنشطة الترفيهية والتثقيفية الجادة والهادفة التي ترضي تطلعاتهم، بل هي عبارة عن فضاءات دون روح. وفي غياب وسائل الترفيه والتثقيف تصبح المقاهي الملاذ الوحيد المتوفر الذي تدور حوله حياة معظم الشباب”. وأكد القيزاني أن أهالي الكاف يفتقدون إلى وجود حدائق ومنتزهات عامة رغم أن المحافظة محاطة بسلسلة من الجبال الخضراء، وتضم عدداً من المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية، وبسبب الجو الحار أصبح خيار البعض، ممن يمتلكون الإمكانيات المادية الكافية، هو التخطيط المسبق لرحلة قصيرة إلى إحدى المدن الساحلية أو قضاء بضعة أيام في العاصمة عند الأهل والأقارب والحصول على فرصة الاستمتاع بشاطئ البحر، أما المنتجعات السياحية والفنادق فهي لمن يستطيع إليها سبيلا من الأغنياء والطبقات المتوسطة من الموظفين. وأوضح القيزاني قائلا إن “السياحة الداخلية بقيت شعارا كاذبا لا يصدّقه إلا الحمقى والمغفلون، وما هو مؤكد أن السياح الأجانب يعرفون بلدنا أكثر مما نعرفه نحن، خصوصا أمام جشع أصحاب النزل ولهفتهم على العملات الصعبة من اليورو والدولار، لكن من لا يملك المال الكافي للاصطياف يظل حبيس المقاهي ولا يغادرها إلا لحفل زفاف أو مناسبة عائلية تخرجه من الروتين القاتل”. وأضاف “من النادر أن تقام بعض المهرجانات والتظاهرات الثقافية في الجهة، وربما تمر هذه الأحداث من دون أن يتفطن إليها الأهالي، علاوة على أن بعض الفعاليات والحفلات لا تحظى بجمهور كبير بسبب أسعارها الباهظة مقارنة بالإمكانيات المحدودة للناس”. وتابع القيزاني حديثه، “ما يجعلني أأسف على حال منطقة الشمال الغربي أن أقصى أمنيات البعض هي ملامسة مياه البحر لجلودهم أو الركوب في قطار سريع لا يشبه قطار مدينة الدهماني المتهالك الذي يسير بخطى السلحفاة، وكل هذا يجعلني على يقين أن ما نسمعه اليوم من مصطلحات رنانة حول التمييز الإيجابي بين الجهات، ما هو إلا أسطوانة انتخابية مشروحة ننفر من تكرارها مرارا، ويبقى أهل الشمال الغربي كما الوسط والجنوب الغربيين ينتظرون لعل القدر ينصفهم بعد أن وأد الساسة أحلامهم على صخرة اليأس والتجاهل، ومن يدري ربما يشرق صباح يوم جديد ليزيل عتمة ليل بهيم”. لحسن الحظ استطاعت دليلة اليعقوبي (موظفة) التي تقطن بإحدى المدن التابعة لمحافظة الكاف السفر لقضاء عطلة صغيرة برفقة زوجها وطفلتيها في مدينة قليبية بمحافظة نابل بالشمال الشرقي للبلاد التونسية.وعبّرت اليعقوبي عن استيائها من خلوّ منطقتها من وسائل الترفيه والتثقيف، وخصوصا منتزهات للأطفال قائلة “عطلاتنا أصبحت مملة ونادرا ما نخرج للتنزه، فطفلتاي الصغيرتان تقضيان معظم الإجازة في المنزل، وتحول الصيف إلى أيام روتينية لا يكسر هدوءها سوى التوتر بسبب وضع البلاد الاقتصادي والسياسي السيء، أو أخبار وباء كورونا التي نسمعها في أغلب الأحيان فتقلق سكينتنا”. وأضافت اليعقوبي لـ”العرب”، “نحن الكبار باستطاعتنا تحمل هذه الحلقة المعتادة من الرتابة، لكن ما ذنب الأطفال المنسيين في كل شيء في منطقتنا، فلا أحد من المسؤولين يفكر في احتياجات الطفولة لوسائل الترفيه ومنتزهات الألعاب التي تمنحهم الراحة النفسية، وتحقق لهم نموا أفضل على مستوى البنية الجسدية والفكرية، ولعل الأمر نفسه ينطبق على الكبار، فنحن أيضا في حاجة ماسة لقضاء بعض الأوقات الممتعة بعيدًا عن مكاتب العمل، ولكننا للأسف أصبحنا كبارا وصغار نئن تحت وطأة الإجهاد والقلق بسبب انعدام المهرجانات والمنتزهات ودور السينما”. وختمت اليعقوبي قولها “لقد شعرت ابنتاي بالضجر من أجواء البيت الروتينية، لهذا أستجبت أنا وزوجي لرغبتهما في قضاء عطلة صغيرة على الشاطئ والحصول على بعض الراحة، لاسيما بعد فترة عصيبة قضيناها في الحجر الصحي بسب فايروس كورونا”. ويبقى خيار السفر متاحا فقط للبعض من ميسوري الحال وأسرهم، فظروف الحياة الصعبة والضغوط المالية لا تمنح الكثيرين الفرصة للتنقل إلى العاصمة والمدن السياحية والاستمتاع بمظاهر بسيطة للحياة مثل ارتياد الشواطئ، إضافة إلى إشاعة الوباء لجوّ من الخوف، لذا فإن معظم سكان جهات الشمال الغربي ظلوا حبيسي جدران منازلهم، في مدنهم التي تفتقر إلى المسارح والمنتزهات ودور السينما والنوادي الرياضية. ويرى محسن الخماسي (مصمم غرافيك)، أن “اقتطاع بعض الوقت للاستمتاع بفترة من الراحة والاسترخاء أمر ضروري لكل إنسان لتجديد نشاطه والشعور بالتوازن النفسي وصفاء الذهن، وحتى يكون أكثر تحملا لأزمات الحياة ومصاعبها، لكن الأمر ليس بهذه البساطة بالنسبة إلى السواد الأعظم من سكان مدن الشمال الغربي وقراه، وهم الذين يكتوون بلفح هجير الصيف ولا يستطيعون الاستمتاع ولو بعطلة صغيرة على الشواطئ الجميلة لتونس، ونادرا ما ينعمون بقسط من الترفيه والراحة. قال الخماسي لـ”العرب”، “الشمال الغربي يزخر بالجمال الطبيعي والمعالم التاريخية التي لا تعد فقط جزءاً من يوميات السكان الحاليين وماضيهم وحاضرهم فحسب، بل هي أشبه بحضارة خالدة تحمل في طياتها أمجاد العديد من الأمم، والتاريخ يشير إلى أن حضارات وممالك ازدهرت في ربوع الشمال الغربي ونهلت من ثرواته الكثيرة، لكن المحسوبيات السياسية تحاول أن تطمس هذه الحضارات، ولا تبقي منها سوى أطلال هشة مهددة بالاندثار”. وأضاف، “يفتقر معظم أهالي قرى الشمال الغربي ومدنه إلى أبسط مقوّمات العيش الكريم، فما بالنا بوسائل الترفيه والتسلية، فرغم أنها حاجة ضرورية لكل إنسان لكن للأسف أمام انعدام القدرات والإمكانيات المادية يعيش معظم الناس في هذه المناطق المنسية حياتهم على الهامش، بل ويعتبرون الترفيه حلما صعب المنال”. وشدد الخماسي على أن مناطق الشمال الغربي تعتبر مجالا خصبا لإنعاش السياحية، لما تزخر به من ثروات بيئية وطبيعية ومعالم أثرية، إلا أنها تفتقر إلى مبادرات تنموية في مجال السياحة، من شأنها أن تنعكس على مستوى الدّخل المادي للعائلات وتساهم في إنقاذ البلاد من الأزمات الاقتصادية الخانقة. محافظات الغرب تعاني من ظروف معيشية واقتصادية واجتماعية صعبة في ظل غياب التنمية حتى صار اسمها مناطق الظل واعتبر أن غياب الفضاءات الترفيهية والتثقيفية في جهات الشمال الغربي “لا يكشف عن عجز الساسة ونواقصهم وضعف بصائرهم فحسب، بل ويسلط الضوء على الجزء المخجل في بلد قرّر ساسته ترك سكان الشمال الغربي يعيشون على الهامش”. وختم الخماسي حديثه قائلا “التوزيع غير العادل للثروات والموارد الطبيعية والمشاريع التنموية بين الجهات لم يسفر إلا عن زيادة عدم المساواة وعدم الاستقرار الذي يعرف به هذا الإقليم، وكل ذلك بسبب تخلي السياسيين عنه، على الرغم من الخطب والوعود الرنانة التي لم تتحقق على أرض الواقع”. وشدد الخبراء على أن الظروف المعيشية لسكان الشمال الغربي قد دفعت بالآلاف من شباب الأرياف إلى الهجرة الداخلية نحو العاصمة ومدن الساحل بشكل عام، ولم يكن هؤلاء المرتحلون مدفوعين برؤية مثالية للحياة، وإنما أقدموا على ذلك لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل قسوة الظروف في مناطقهم التي آثروا الابتعاد عنها.
مشاركة :