العقل الإنساني لا يملك اليقين بصواب لا خطأ معه

  • 6/12/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

إنّ الصراع على تملّك الرأسمال الرمزي للتراث، وانتشار ثقافة الإقصاء والتكفير واستشراء الترهيب بصنوفه في المجتمع العربي والإسلامي المعاصر، كان دافعا للباحث التونسي المتخصص في الحضارة العربية والإسلامية د.محمد الخراط للبحث عن قبسات المنزع الإنساني في فترة زمنية من التراث القريب هي عصر النهضة العربية، والنظر في عوامل نشأتها ومآلاتها على المدى القريب، وإمكانات استعادتها في الزمن الراهن. وذلك في كتابه "الأنسنة العربية الحديثة.. ممكنات عصر النهضة والأسئلة الراهنة" حيث رأى عصر النهضة لم يكن شرارة توقّد فكري وتحول تاريخي في السياق العربي والإسلامي فحسب، وإنّما جاء محاولة لمسايرة النهضة العظيمة في أوروبا، وتلبية لانتظارات الروح التي طال بها العذاب والاختناق، فأرادت أن تشرع نوافذها على هواء الحرية، وتبحث في أعماقها عن دفق الحياة وجذوة الإنسان. أوضح أن الكتاب - الذي صدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود - رصد للحظة من لحظات حيوية الذات، وهي لحظة النهضة العربية التي شكّلت فرصة مهدورة من فرص التاريخ، كانت قد لامست فيها جذور الأنسنة - وما أحوجنا إليها - ولكنّها لم تدم طويلاً لأنّها ضلت سبيلها. وقال "لعلّ وقوفنا عند هذه اللحظة بتقفّي بعض خصائص الرؤية العربية للعالم - وهي في جوهرها رؤية دينية تعدّ الثقافة جزءاً من الدين وليس الدين جزءاً من الثقافة - قد جعلتنا نرصد نسيجاً من ميكانيزمات العقل العربي التي حالت دون تحول تلك اللحظة إلى مشروع عربي لإنسان الحداثة بعيداً عن تقسيمات العقل إلى عقل ديني وعقل فلسفي وآخر تكنولوجي؛ لأن العقل، في تصوّرنا، لا يخرج عن ملكات الإنسان لتنظيم سبيله إلى الخلاص. وعصرنا هو عصر انتظار ميلاده موضوعاً مدنياً بصورة جذرية. وحداثة الأعماق التي كان لا بدَّ من بلوغها ليست بالضرورة حداثة الغرب".ورأى أن بين نزعة الأنسنة في القرون الهجرية الأولى، وما جرى أثناء النهضة العربية، ولاسيما خلال القرن الـ19 ومطلع القرن الـ 20، أواصر قربى أهمها تحفّز الفكر لمسايرة حركة التاريخ؛ أي تحمل العقل مسؤولية الانتقال نحو الحال الأفضل بالجهد الذي يحترم الإنسان من الناحية الفكرية والإبستمولوجية، وتحمل مسؤولية إنقاذ الروح انطلاقاً من الحضور الخلاق للإنسان. تنبثق النزعة الإنسانية حين تهون دوغما المؤسسات السلطوية، وتصبح الحرية مطلباً رئيساً، حين تغتني الثقافات وتتلاقح بلا أب، حين تشرع أبواب التأويل والاجتهاد، حين نعزف عن ظاهرنا الهووي المتوتر والعنيف، وقد تملكنا سلطان الانفعال للموروث المعرفي والعقدي، ونصغي إلى ما في أنفسنا، إلى البشري فينا، إلى العفوي والتاريخي والسلمي فينا. وأضاف الخراط "وجدنا شيئاً من كلّ هذا في عصر النهضة العربية من خلال كتابات بعض أعلامها ممّن اختلفوا في المشارب التي وردوها. لكنّهم كانوا يعبّرون بأصوات متنوعة عن نزوع الإنسان إلى التغيير لإظهار الإنساني فيه، على الرغم من البعد التراجيدي الذي اكتنف تلك الجهود. وهذا البعد التراجيدي تجسّد في ذلك القدر التاريخي الذي ألمّ بالمجتمع العربي والإسلامي من السقوط إلى التفكك والاستعمار، وهو قدرٌ لا بدّ من أخذه في الاعتبار بما هو مكوّن من مكوّنات العقل والروح، ولكن بالبحث أيضاً عن سبب عجزنا عن تجاوز هذا القدر المأساوي، وخصوصاً أنه قد بانت بعض تباشير هذا التجاوز في محاولة للنيل من هذا القدر وتخطي عقباته. بيد أنّ الأمر آل إلى غير المأمول بعد وجيز يقظة. وانتهينا إلى تخمة الشعارات الإيديولوجية الفجة. ولعلّه لهذا السبب غلب رصد أسباب الفشل على تعديد آيات الأنسنة في عملنا، وانصرفنا إلى محاولة المقارنة بين النزعة الإنسانية الحديثة في أوروبا، وتلك التي نجم طلعها في العالم العربي والإسلامي، آخذين في الاعتبار السياق التاريخي والمعرفي لكلتا التجربتين". وجاءت رهانات الخراط في عمله متمثلة أولاً التساؤل إن كان الفكر العربي في القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ 20 قد انبثقت داخله النزعة الإنسانية استجابة لنداء الذات، وهي تتفكّر في حاضرها ومستقبلها أو أن الأمر لا يعدو أن يكون بعض شذرات الإبداع بفعل التلقي العفوي لثقافة الآخر ومحاولة سطحية لمحاكاة تجربة الأنسنة الأوروبية المعروفة آنذاك. والتساؤل الثاني هو المتصل بالأسباب التي ساهمت في إجهاض التجربة الإنسية العربية ولمّا تُؤْتِ أكلها بعد. أما الثالث فيتعلق بآفاق استعادة هذه الحركية الإبداعية وجذوة الحياة في عالمنا المعاصر. وأشار إلى أنه لمّا كانت مجتمعاتنا الحديثة رازحة تحت ثقل العنف، قد استشرى فيها التعصب، ونفق خلالها سوق الجهل مقدساً ومدنساً، وأينعت فيها جذور الفكر الأصولي الذي انبعث من معاقله ليعكس مرايا مشققة عن انغلاق لاهوتي في الدين، وضاع في تضاعيف ذلك الإنسان، فصار يسائل نفسه: من هو الإنسان؟ وأيّهما أولى به: حماية المقدس من الإنسان أم حماية الإنسان من المقدس؟ لما آل الأمر إلى هذه الحال، كان لا بد من التفكير في نشأة مستأنفة لخطاب الأنسنة، فكان تفكيرنا في مفهومها وأشكال حضورها في الفكر والتاريخ العربيين، وصور السجال بين المقر بحضورها والمنكر لوجودها، تمهيداً للحديث عن مشروع الإنسان في الحضارة العربية بين الخفاء والتجلي، فتوقفنا عند زمن النهضة".  وأضاف الخراط أنه كان لا بد من نحت مفهوم إجرائي للأنسنة، وتقييم مستوى حضور هذا المفهوم عند بعض أعلام النهضة العربية؛ لأننا نذهب مذهب زعم أنّ المشروع المعلق لأعلام النهضة كان من بين علل الاستشكال في اللحظة المعاصرة. وقد وجدنا بعض ملامح الأنسنة في خطاب هؤلاء الأعلام، وتراءى لنا المسعى الإنساني والطموح إلى الارتقاء بالعمق البشري. ولكن سرعان ما غاب كلّ ذلك خلف شعار الإصلاح، فشعار الكفاح، ثم شعار الثورة والبناء الوطني، فكان عملنا في بعض وجوه دراسة لنماذج تطبيقية عكست يقظة الإنسان العربي، وأكدت حضوره الفاعل في التاريخ، قبل أن تخبو جذوة هذه اليقظة لأسباب ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية متداخلة.ورأى أن البحث عن الأنسنة تأكيد على أنّنا ما لم ننظّر للإنسان فلسفياً فإننا لا نستطيع أن ننظّر للأخلاق، وما لم نتخطَّ الرؤية الكلاسيكية للعالم، وما لم نخترق السقف الميتافيزيقي للإبستمي القديم، فإنه يستحيل علينا الحديث عن حضور جديد للإنسان. وبين إدراك الهوية المركبة فينا، والتوق إلى نحت الكيان، أواصر قربى تدعونا إلى إعادة التفكير في المصير. إنه إذا "لم تكن الإنسانية ديناً، وإنما رتبة يصل إليها بعض البشر، ويموت آخرون دون الوصول إليها"، كما أُثِر عن سقراط، فإن الارتفاع إلى مستوى هذه الرتبة ما كان في مسار التاريخ أمراً حاصلاً إلا حين بحث الإنسان عن ذاته وخلصها من متاهات الضياع في أبحر النسيان والجهل والتحجر، وحين أدركت الذات البشرية أن تقويم الفعل - وهو عماد الأخلاق - هو نبع المعنى الأصيل. ولفت الخراط إلى أن المفكر محمد أركون تتبع مسار الأنسنة في الثقافة الإسلامية برصد ضروبها في التاريخ الإنساني، ورأى أنها يمكن أن تكون متمركزة حول الله، وضمنها تُقرَأ الأنسنة في الأديان التوحيدية الثلاثة، ويمكن أن تكون متمركزة حول الإنسان بما هو ذات عاقلة، سواء كانت العقلانية في إطارها الأفلاطوني أم في إطار المركزية المنطقية للفكر الأرسطي، وبشّرَ بأنسنة شاملة وكونية تتجاوز حدود الأديان والأعراق والثقافات، ويكون همها إدراك حقوق الروح بإطلاق. بيد أننا لم نَلُذْ بهذا المسار الذي اختاره أركون؛ لأن فيه تمجيداً ظاهراً للأنسنة التي تنتصر للعقل المنطقي في صورته الإغريقية القديمة، أو في صورته التي تجلّت في الثقافة الغربية الحديثة، ونحن نعتقد أنّ ميزة العقل الإنساني أنّه لا يملك اليقين بنفع لا ضررَ فيه، ولا هو يملك اليقين بصواب لا خطأ معه، وأن ضروب العقلانية ترتضيها الشعوب، وتقرّ في ضمير الحضارة، فلا تستورد، ولا تستنسخ؛ لأنّها في النهاية عمل الفكر في إطار اللغة والتاريخ. وأكد أنّ النزعة الإنسانية لا تخضع للمنطق التفاضلي، وإنما تخضع فقط لقدرة الإنسان على خلق الفضاء المناسب لتعميق الروح والاهتداء إلى سبل الخلاص بصرف النظر عن الفضاء المعرفي الذي يكتنف هذه الهواجس، وهو، بطبيعته، متغيّر بتغير قدرات الإنسان في المعرفة والتطلع إلى التغيير. كانت فكرة الخلاص - وهي اطمئنان الروح إلى وجودها الواقعي وتقبلها لقلق الموت - تنبجس من عمق الإيمان عند الفرد المسلم خلال التجربة النبوية والعصر التدشيني للإسلام؛ لأنّه مسلم أمره إلى الله، وذاك يكفيه لتحصيل السعادة. هناك سعادة في الميثاق مع الله، سعادة ما حتى في الموت باجتهاد في تحقيق الحلم والتضحية في سبيله، ذلك نموذج الأنسنة في المجال المعرفي للعرب المسلمين الأوائل. وحين زاحم العقل الأرسطي الأفكار الدينية صيغت المقولات التوفيقية بين العقل والنقل، وحين عانقت الأنفاس الهرمسية أنماطاً من التدين صيغت فلسفات الإشراق، وكان هناك جهد إنساني في كلا المسارين لإدراك الممكن الأقصى في الإنسان، والتبشير بخلاص محتمل للروح بالحلول في التاريخ، أو بالارتفاع عليه. واستدرك الخراط "لما غلّقت الأبواب أمام حرية الاختيار، وأقصيت إرادة الإنسان، وصُودِرت أنفاسه، تراجع حضور الإنسان بوصفه سالكاً لمسار الانعتاق وتحديد طريق الخلاص. صار الطريق إلى الخلاص مقنناً بضوابط المؤسسات السلطوية القهرية سياسية وفقهية وعرفية.. حتى كان زمن الحداثة الذي أعلن شعار عودة الروح التواقة إلى نحت الكيان، وقد لامس أعلام النهضة العربية عتبات هذا الفكر النزّاع إلى حضور الروح ورسم المصير من خلال الانصراف إلى تراثهم يعيدون إحياءه وتدبره، وإلى الآخر يبحثون فيه عن نوافذ جديدة للنجاة. كانت في كتاباتهم أصوات مكتومة لذات مكلومة تتلمس شرعة إلى أعماق الإنسان، وهي شرعة الشعراء والمفكرين ورجال السياسة وعلماء الدين وبعض من عامة الناس الذين ضاقوا ذرعاً بالتاريخ المهدور والنقد الممنوع والمواهب المقموعة بسبب القدسية المزعومة للعقل القانوني للفكر الإسلامي، فقرروا جميعاً أن يخلعوا لباس الاستكانة والسلبية، وأن يحرروا الإنسان في داخلهم متفكرين في طرائق الفعل الخلاق في الشعر والأدب، في المناظرات الفلسفية والسياسية، في الخطب والمحاضرات، في بنود الإصلاح السياسي والاجتماعي، في الثورات والكفاحات". قسّم الخراط عمله إلى فصول ثلاثة، رصد في أوّلها تحولات الأنسنة من جهة حركة المفهوم والعوامل التاريخية والحضارية الحافة بنجوم الظاهرة. وثانيها خصصه للوقوف على مظاهر المنزع الإنساني في عصر النهضة العربية ضمن مجالات متعددة كالتعليم والترجمة والتشريع. ووقف عند المعوقات التي حالت دون تفتّح هذه النزعة الإنسانية، وأعطى أنموذجاً على هذا المشروع المجهض: مناظرة محمد عبده وفرح أنطون، الأول الذي قرأ الحداثة بعين الإسلام السلفي، والثاني الذي قرأ الإسلام بعين المسيحي المضطهد، فكانت الرؤية متشظّية، وفشلت في صناعة المثال الفكري والقيمي المطلوب.  واستأنف في الفصل الثالث، الفصل القول في مشروع الأنسنة من خلال أسئلة الراهن، مبينا أن كثرة من القواسم المشتركة كانت تجمع بين الإطار الثقافي والاجتماعي الأوروبي ونظيره العربي والإسلامي أثناء نهضتيهما، وأنّ العامل الحاسم في تميّز الأول من الثاني إنّما كان في مسألة فصل الدين عن المعرفة والسياسة. إن من اختار الفصل فقد أتاح للإنسان فرصة التجلي على التاريخ، وتحمل شرف المسؤولية العقلية المستقلة، ومن رام الوصل، فقد حكم على نفسه بالبقاء حيث وجد أسلافه.  

مشاركة :