يعد الاستفتاء الذي يجرى في اليونان اليوم، لمعرفة موقف اليونانيين من شروط حزمة الإنقاذ الدولية، استفتاء ليس فقط على العلاقة المستقبلية لليونان بمنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، وما إذا كانت ستبقى أم ستنسحب منه، بل هو استفتاء على مستقبل اليورو ذاته ووضع أوروبا الاقتصادي مستقبليا. أكثر المدركين خطورة الوضع هم وزراء مالية منطقة اليورو، إذ كشفت تقارير سربت عن محضر اجتماعات صندوق النقد الدولي بشأن الأزمة اليونانية، أن وزراء منطقة العملة الأوروبية الموحدة حاولوا عبثا وقف صندوق النقد عن نشر تحليل قاتم عن عبء ديون اليونان، وأن الاستقرار المالي فيها لن يكون مستداما دون تخفيف عبء الديون بشطب الشركاء الأوروبيين جزءا منها، وأن أثينا ستكون في حاجة إلى 60 مليار يورو على الأقل مساعدات إضافية خلال السنوات الثلاث المقبلة ليكون اقتصادها قادرا على البقاء واقفا، وهذا التقرير تحديدا هو ما دفع برئيس الوزراء اليوناني إلى إعلان الاستفتاء. وهنا قال لـ "الاقتصادية" المختص المالي روبرت ويلسون، "إن الرغبة الأوروبية في عدم نشر تقرير صندوق النقد، ترجع إلى إدراك وزراء مالية اليورو طبيعة الهزات المالية العنيفة التي ستتعرض لها منطقتهم إذا صوت الناخب اليوناني لمصلحة رفض شروط الدائنين". يونانيون يصطفون في طوابير، لانتظار استخدام أجهزة الصراف الآلي، بعد قرار الحكومة أن يقتصر سحب النقود اليومية على 60 دولارا. «أ. ب» وفيما يتعلق بتبعات هذا الأمر، أوضح أن "الاستقطاب المصرفي بين مصارف جنوب أوروبا وشمالها سيكون أول رد فعل سيحدث على انسحاب اليونان، وستتسع الفجوة المالية الراهنة بين دول الجنوب الأوروبي الأعضاء في منطقة اليورو ودول الشمال". وأضاف ويلسون، أنه "بخروج اليونان يمكن أن تحدث أزمة مالية في بلدان العملة الأوروبية الموحدة، إذا انسحبت رؤوس الأموال من البلدان التي تعاني مشكلات ديون مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وقبرص وتوجهت إلى المصارف الألمانية"، مضيفا أنه "ستنهار كل جهود منطقة اليورو المبذولة منذ عقد ونصف في التقريب بين المنظومة المالية في دول الجنوب والشمال، عبر مزيد من التعاون والدمج بين المصارف الأوروبية". وتابع "وهذا الوضع أيضا لن يكون في مصلحة الاقتصاد الألماني وتحديدا منظومته المالية، على الرغم من أنه سيكون لدى برلين فوائض مصرفية كبيرة، إذ سيكون عليها دعم البنك المركزي الأوروبي، إضافة إلى تقديم دعم مالي مباشر لبلدان جنوب أوروبا المتضررة من انسحاب رؤوس الأموال الخاصة من مصارفها، باختصار حالة من الارتباك المالي ستسود العملة الأوروبية الموحدة، وستؤدي إلى انخفاض حاد في قيمتها". وأكد ويلسون، أن الضرر والخسائر التي ستحيق بالاقتصاد اليوناني يصعب حسابها الآن، ولا تعد المشكلة في نظر البعض الخسائر المالية فقط، بل هناك تساؤلات حول قدرة اليونان الإدارية على التعامل مع الوضع الجديد، الذي سيستلزم منها في حالة الانسحاب من اليورو طباعة عملة خاصة بها وهي الدراخما عملتها السابقة قبل الانضمام إلى اليورو. عمليات تجهيز صناديق الاستفتاء كما بدت في أثينا أمس.«رويترز» وأشار إلى أن طرح عملة جديدة قضية اقتصادية معقدة للغاية محليا ودوليا، خاصة بالنسبة لليونان المستفيدة لسنوات من الدعم الجماعي لبلدان اليورو للعملة الأوروبية الموحدة. فيما أوضح لـ "الاقتصادية" الدكتور جون تابيلين؛ الاستشاري في هيئة سك العملة البريطانية، أن إصدار عملة وطنية جديدة عملية شديدة التعقيد اقتصاديا، وفي الحالة اليونانية تزداد تعقيدا لأنها تأتي وسط أزمة ليست ذات طابع إنتاجي بمعنى تراجع معدلات النمو أو تفشي التضخم، وإنما وسط أزمة مديونية. وبين أن السؤال الرئيسي كيف يمكن تحديد قيمة صرف العملة الجديدة في مواجهة العملات كافة، وإلى أي مدى يمكن للحكومة اليونانية التحرك السريع لإصدار الدراخما. وأضاف، أن "بعض الاقتصاديين اليونانيين ومن بينهم وزير المالية اقترحوا استمرار تعامل الاقتصاد اليوناني باليورو لبعض الوقت حتى تستقر الأسواق"، مبينا أن "صعوبة هذا الاقتراح تكمن في أنه بمجرد التصويت بـ "لا" لشروط الدائنين، وإعلان اليونان الانسحاب من منطقة العملة الأوروبية الموحدة، على البنك المركزي الأوروبي وقف دعمه ومساعدته للمصارف اليونانية، من ثم لن تستطيع المصارف اليونانية مواصلة التعامل باليورو". من ناحيتها، أبدت الدكتورة جيل ماكليدو أستاذ مادة "البنوك والنقود" في مدرسة لندن للأعمال، مخاوفها من قدرة النظام المصرفي اليوناني على التعامل مع الأزمة الراهنة. وقالت لـ "الاقتصادية"، إن "التحول إلى عملة جديدة سيطرح على النظام المصرفي اليوناني تحديات غير مسبوقة من قبيل كيفية التعامل مع الحسابات المصرفية سواء الجارية أو الادخارية، وكذلك التعامل مع الدائنين، وطبيعة الآليات الاستثمارية الجديدة التي سيطرحها، ولم يعد خفيا أن البنك المركزي اليوناني أعد خطة تقوم على أساس أنه إذا اتخذ قرارا بالانسحاب من منطقة اليورو فستتم مصادرة 30 في المائة من الحسابات المالية للمودعين الذين تزيد ودائعهم عن ثمانية آلاف يورو، وبعيدا عن أن عملية تصميم وطباعة العملة الجديدة ستأخذ فترة زمنية تراوح بين ستة أشهر وعامين، فإن السؤال: ما وضع اليونان خلال تلك الفترة"؟ ويعتقد عدد من المختصين أن أبرز تحد سيواجه العملة اليونانية الجديدة هو كيفية توزيعها وضمان وصولها إلى كل ركن في البلاد، إضافة إلى إقناع المستهلك المحلي والأسواق الدولية، بأن "العملة الجديدة تتمتع بثقة مالية" وهذا التحدي الأخير سيكون شديد الصعوبة من منطلق عجز اليونان عن سداد ديونها الدولية. ويجمع المختصون حاليا، على أن النظام المصرفي اليونان سيواجه معضلة إذ تخلى عن اليورو وأصدر الدراخما، لأن التوقيت المطلوب بين إصدار العملة الجديدة وتوزيعها سيعني أن الأسواق ستتعامل بعملتين في آن واحد اليورو والدراخما، وإذا كانت الصلاحيات الممنوحة للمصارف اليونانية ستؤهلها لأن تقوم بتحويل الحسابات المصرفية إلى الدراخما، فإن المحال التجارية ستظل تتعامل بالعملتين، والخطر الأكبر أن يواصل المستهلكون ورجال الأعمال والمحال التجارية تعاملهم باليورو إذا لم يكن لديهم ثقة بقيمة العملة الجديدة. وكانت بعض التجارب الأوروبية ومن بينها تجربة اليورو ذاته الذي صدر عام 1999 قد شهدت وضعا مشابها، وظل التعامل اليومي القائم في عديد من البلدان الأوروبية يعتمد على اليورو والعملات المحلية، إلا أن الوضع اليوناني أكثر تعقيدا لأن التغيير للعملة الجديدة يجب أن يتم سريعا دون وجود فترة زمنية لتخطيط كاف، وهو ما تميز به إصدار اليورو. وأضاف المختصون، أن اليورو "سيظل في مجال التداول عبر عديد من البلدان الأوروبية، ويخشى أن يجعل هذا الوضع الدراخما عملة ذات جاذبية محدودة، وإذا فقدت العملة اليونانية الجديدة جاذبيتها للمستهلك المحلي فإن سعر الصرف بينها وبين اليورو سيكون منخفضا للغاية، وهذا سيعزز اتجاه الرفض للعملة الجديدة". بدوره، أوضح لـ "الاقتصادية" فرانك جينسون الباحث الاقتصادي في مجموعة أكسفورد للأبحاث، أن "الخطورة لن تقف عند المصاعب المصرفية، بل المؤكد أنها ستتجاوزها إلى العملية الإنتاجية برمتها". وشدد على أنه على المؤسسات المالية الدولية وتحديدا البنك الدولي وصندوق النقد وضع خطة طوارئ لإنقاذ اليونان، إذا ما انهار اقتصادها بالكامل، لافتا إلى أنه على الجميع أن يتساءل عما سيكون عليه الوضع إذا استمرت الحكومة في فرض حد أقصى للمسحوبات المالية من المصارف، سواء للأفراد أو المؤسسات، النتيجة انخفاض حاد في الاستهلاك والإنتاج، وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة، وماذا سيكون الوضع إذا استمر الحد الأقصى على التحويلات المالية للخارج بما يعنيه من انخفاض الواردات وعدم توافر عديد من المواد الأولية أو شبه المصنعة أو المصنعة سواء للاستهلاك المحلي أو للتصنيع، هذا بالطبع سينعكس على قدرة الحكومة على جباية الضرائب. والآن يعتبر اليونانيون أمام استفتاء تاريخي سيقرر مصيرهم الاقتصادي لأجيال قادمة، فكل ما لدى الحكومة اليونانية حاليا من سيولة مالية هو مليار يورو أي ما يوازي 90 يورو لكل فرد من سكان اليونان البالغ عددهم 11 مليون نسمة، وسواء كانت نتيجة التصويت بـ "نعم" أم "لا"، فإن صباح الإثنين سيشهد مساعي حثيثة من الحكومة اليونانية لطلب المساعدة المالية دوليا وتحديدا من المصرف المركزي الأوروبي. كما أن المحال التجارية باتت تواجه نقصا في السلع الرئيسية، وعديد من الأدوية الرئيسية لم يعد متوافرا في الصيدليات، والمنتجعات السياحية أضحت خالية من السائحين، وبلغت نسبة إلغاء الحجوزات 50 ألف سائح يوميا خلال الأسبوع الماضي لتنخفض نسبة السياحة في اليونان خلال الأيام الثلاثة الماضية بنسبة 40 في المائة. ويدفع هذا الوضع بالبعض ومن بينهم الدكتور نيلسون رنتول أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة أكسفورد وأحد أبرز الاقتصاديين البريطانيين المطالبين بضرورة دعم اليونان اقتصاديا للحفاظ على الاتحاد الاوروبي، إلى التعليق بأن "اليونان دولة صغيرة وهشة اقتصاديا، وانهيارها إذا ما انسحبت من منطقة اليورو أمر حتمي، وقد يتراجع الوضع الاقتصادي فيها لسنوات أو عقود". وأكد أن أوروبا لن تنهار اقتصاديا أو ماليا إذا انهارت اليونان، ولكن سقوط أثينا سيكون كفيلا بإصابة فكرة الوحدة الأوروبية سواء عبر عملة موحدة أو بمزيد من الاندماج الاقتصادي بضربة قاصمة قد يصعب الشفاء منها إلى الأبد.
مشاركة :