خاضت “بي.بي.سي” طوال عقود معارك مع الحكومات البريطانية المتعاقبة لتحافظ على استقلاليتها، لكن الخدمة العربية لهيئة الإذاعة البريطانية تثير جدلا واسعا بشأن سياستها التحريرية المنحازة للإخوان، وهو ما يفسر تعقيداته الكاتب الإعلامي المصري منير مطاوع في كتابه “بي.بي.سي على كف عفريت”. بالاستقلال والموضوعية اكتسبت هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”، منذ تأسيسها عام 1922، مصداقية تاريخية. وبهذه القيم المهنية مدّت الجسور إلى الجمهور، وأصبحت أقوى مؤسسة إعلامية في العالم، وتتمتع بأكبر شبكة من المراسلين والمكاتب، وتمارس دورها الإعلامي بامتياز، وتتحدى رؤساء حكومات بريطانيا حتى في أزمنة الحروب، قبل إهدار هذا الرصيد، وميلها في السنوات الأخيرة إلى أن تكون صوتا للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. هو تحوّل درامي في سياسات مؤسسة رائدة كان الظن بها، منذ تابع العرب “هنا لندن” باللغة بالعربية عام 1938، أنها “لا تنطق عن الهوى”. في كتابه “بي.بي.سي على كف عفريت” يرصد الكاتب الإعلامي المصري منير مطاوع، المقيم في لندن منذ عام 1980، محطات مهمة لأعرق هيئة إعلامية في العالم، وهي تصل حاليا إلى 308 ملايين شخص حول العالم، ونشأت تلك الثقة من الصدق المهني، وهو عنوان هذه المؤسسة الأهلية، المستقلة عن أجهزة الدولة والحكومة والأحزاب، وتعتمد في مواردها على اشتراكات سنوية يسددها الملايين من المستمعين والمشاهدين، وتبلغ حاليا 145 جنيها إسترلينيا سنويا، للبيت الواحد في بريطانيا. واستنادا إلى استقلالها المادي تضع “بي.بي.سي” سياساتها التحريرية، ولا تخضع لأي قوى سياسية أو اقتصادية، ولها مجلس أمناء يعتمد البرلمان تشكيله، ويقرّه رئيس الحكومة “كإجراء شكلي، حيث ليس لرئيس الحكومة أي نفوذ على الهيئة”. وتثبت التجربة أن معظم رؤساء الحكومات خاضوا صراعا يبلغ أحيانا درجة الصدام مع “بي.بي.سي”. هارولد ويلسون وضع مشروعات قوانين تؤدي إلى سيطرة الحكومة على “بي.بي.سي”، ولم يوافق عليها البرلمان. وفي العدوان الأميركي الذي انتهى باحتلال العراق عام 2003، خاضت “بي.بي.سي” معركة ضد رئيس الوزراء توني بلير، وكذبت ادعاءاته التي سوّغ بها جورج بوش الرئيس الأميركي غزو العراق، ووجهت الهيئة إلى بلير اتهاما بتضليل الرأي العام، والتبعية لإدارة بوش. وأثناء الحرب على الأرجنتين، عام 1982 بسبب النزاع على جزر فوكلاند، شنت رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر حربا موازية على “بي.بي.سي”؛ “لأنها لم تساند الحكومة بصورة مطلقة.. وكانت للهيئة الإعلامية الشهيرة رؤية مختلفة”. سياسة محطة "هنا لندن" العربية تحكمها سياسة الدولة، وانعكس ذلك على برامجها في التلفزيون والإذاعة والإنترنت سياسة محطة "هنا لندن" العربية تحكمها سياسة الدولة، وانعكس ذلك على برامجها في التلفزيون والإذاعة والإنترنت أما الموقف الأكثر صلابة وشهرة ففي العدوان الثلاثي (البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي) على مصر عام 1956، ردا على تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس. وكان الرأي العام البريطاني منقسما، ولا يتفق مع رئيس الوزراء أنطوني إيدن في حملته المحمومة على مصر، وأصرت “بي.بي.سي” الأم على المعايير المهنية، “وقاومت محاولات إيدن للضغط على قرارها واستمالتها لسياسته بدعوى أن الروح الوطنية تتطلب ذلك”، ورفضت الترويج لقرار الحرب. وفي ذلك الوقت، زار لندن رئيس وزراء أستراليا روبرت منزيس، حليف حكومة المحافظين، للمشاركة في مؤتمر عن مستقبل قناة السويس، وأبلغ مكتب إيدن “بي.بي.سي” بوجود منزيس؛ لإجراء مقابلة معه. وجاء الرد “المؤدب”، “لا.. شكرا”. واتصل مسؤول الصحافة لدى الحكومة برئيسة “بي.بي.سي” جرايس جولدي، مستنكرا رفض التسجيل مع منزيس، وتوعد بتحطيم استقلالية الهيئة. وأمر إيدن وزير ماليته بإعداد خطة لاستيلاء الحكومة على الهيئة وإخضاعها، ولكن العدوان فشل، وانتصرت “بي.بي.سي”. ولكن الإذاعة العربية، “هنا لندن”، “الممولة من الحكومة مباشرة خضعت لتوجهات الحكومة”، وأدى ذلك إلى احتجاج عدد من الإذاعيين المصريين والعرب العاملين في “بي.بي.سي”، وقدموا استقالاتهم، ومنهم حسين أحمد أمين الذي صار سفيرا لمصر في الجزائر، ومحمود مرسي الذي انتقل من الإخراج الإذاعي إلى السينما، وأصبح من أبرز الممثلين في تاريخ السينما المصرية. التناول المهني المتباين تجاه الموقف السياسي نفسه يشير إلى أن “هنا لندن” محكومة بسياسات الحكومة، ولا تتوفر لها حرية “بي.بي.سي” الأم، وكأن هناك أكثر من هدف لهيئة الإذاعة البريطانية، فأداؤها مستقل في توجهها بلغة بلادها إلى جمهور يمولها، ولكن هذا الخطاب الإنجليزي يختلف عن خطابها العربي. ويسجل منير مطاوع أن “سياسة التحرير في الهيئة الأم كانت تحكم عمل المحطات الموجهة إلى العرب وغيرهم”، وأن العلاقة بين “بي.بي.سي” الأم والعربية فيها شيء من التعقيد والتركيب، فإنشاء 36 إذاعة موجهة منها العربية، عام 1938 كأدوات استعمارية، كان مشروعا أوكلت وزارة المستعمرات مهام تنفيذه إلى هيئة الإذاعة البريطانية “المستقلة” التي أنشئت قبل 16 عاما، ولديها كوادر وخبرات جاهزة، “وكان تمويل الإذاعة العربية وما تلاها من إذاعات بلغات أجنبية يأتي من وزارة المستعمرات”، وبعد إلغاء تلك الوزارة تتولى التمويل وزارة الخارجية. ويخلص المؤلف إلى أن سياسة “هنا لندن” العربية تحكمها “سياسة الدولة”، وانعكس ذلك على برامجها في التلفزيون والإذاعة والإنترنت، فبعد تغطيتها الموضوعية والنزيهة لثورة 25 يناير 2011، تقوم بدور “تحريفي.. ومتعصب ومتحزب لصالح الإخوان المسلمين وضد ثورة الشعب المصري في 30 يونيو 2013”، فما تفسير ذلك السلوك المثير للشكوك؟ يجيب بأن المشكلة معقدة، وتتداخل فيها عدة أسباب منها ضائقة مالية تواجهها الهيئة، وإصرار حكومة المحافظين الحالية “على فرض نفوذها على الهيئة ككل، مع أنها هيئة مستقلة عن الحكومة تماما، وعلى الخدمة العربية على وجه الخصوص”، وأدى ذلك إلى رحيل عدد من القيادات والكوادر، وتوظيف عناصر محدودة الكفاءة عملت في ظل حكومة ديفيد كاميرون، وقد فرضت إجراءات تقشفية، وواجهت مأزقا بعد عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي في 2013، واضطرت إلى إعلان ترحيبها بما جرى، وأنه كان استجابة “لإرادة شعبية عارمة”. أداء هيئة الإذاعة البريطانية مستقل في توجهها بلغة بلادها إلى جمهور يمولها ولكنه يختلف عن خطابها العربي ونتيجة ضغوط دولية وعربية أعلنت الحكومة عام 2014، تشكيل لجنة “مستقلة” للتحقيق في علاقة إخوان لندن، وهم قيادات التنظيم الدولي للجماعة، بالأنشطة الإرهابية، وإذا ما كانت الجماعة تشكل خطرا على أمن بريطانيا. وفي ديسمبر 2015 خلصت مراجعة الحكومة إلى أن الانتماء للجماعة، أو الارتباط بها، مؤشر محتمل “على التطرف، لكن ينبغي ألا تُحظر الجماعة”. وقال كاميرون في بيان مصاحب للتقرير “هناك قطاعات من الإخوان المسلمين لها علاقة مبهمة إبهاما شديدا مع التطرف المشوب بالعنف. أصبحت الجماعة، كفكر وكشبكة، نقطة عبور لبعض الأفراد والجماعات ممن انخرطوا في العنف والإرهاب… الجماعة مبهمة عن عمد ومتكتمة بحكم العادة”. ويعجب المؤلف لاستمرار شبكة “بي.بي.سي” العربية، الإذاعة والتلفزيون والأونلاين، في استضافة عناصر إخوانية في بريطانيا وتركيا، للتعليق على السياسة المصرية، في حين “لا تسمح فيه لشخصيات من خارج الإخوان المسلمين” بالمشاركة والتعليق وإيضاح الحقائق، “بدلا من الأكاذيب التي تروجها”. وبعيدا عن العنوان الفرعي الزاعق للكتاب، فإن المؤلف يتوقف أمام “الورقة البيضاء”، التي تقدم بها وزير الإعلام والثقافة والرياضة إلى البرلمان، كمقترحات حكومية لوضعها في ميثاق جديد يراعى العمل به اعتبارا من يناير 2017، ولكن قيادة “بي.بي.سي” رفضت الاقتراحات، وتمسكت بضرورة الاستقلال التام عن الحكومة. إلا أن الجدل مستمر، وتعززه وقائع منها استقالة المذيعة السورية ديما عزالدين من قناة “بي بي سي عربي”، “بسبب تحريف وقائع” عن صيغتها الحقيقية في سوريا. يحمل المستقبل تهديدا لاستقلال الهيئة، إذ تسعى الحكومة إلى تعيين رئيس مجلس الإدارة ونائبه وأربعة من المديرين غير التنفيذيين وهو نصف أعضاء مجلس الإدارة الجديد، كما تضغط لإلغاء مجلس أمناء الهيئة، الذي يضع سياساتها العامة ويشرف على عملها ويراقب مدى الالتزام بالميثاق الملكي، وتشكيل مجلس جديد. أما ضعف الميزانية فيؤدي تلقائيا إلى تدني الأجور، والاستغناء عن الكفاءات، وتراجع الأداء المهنى، فأي مستقبل ينتظر “بي.بي.سي”؟
مشاركة :