خطاب مصر السياسي: أدعو على الإرهاب وأكره من يقول "آمين" | سعد القرش | صحيفة العرب

  • 5/19/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يثبت المسلسل التلفزيوني المصري “الاختيار”، إنتاج وزارة الدفاع 2020، أن 95 عاما ضاعت هباء، في منافسة عبثية بين خطاب التشدد الديني والخطاب “السياسي” الرسمي على الجدارة بتمثيل الدين واحتكار تأويله. مزايدة محمومة بدأت عام 1925، بصدور كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، وفيه ينفي مؤلفه الشيخ علي عبدالرازق وجود نص على نظام محدد للحكم في الإسلام الذي ترك هذه القضية للاجتهاد البشري. فسارع التيار السلفي إلى الطعن في المؤلف والكتاب، ولم يتباطأ سعد زغلول زعيم حزب الوفد عن مزاحمة مثيري الغبار والفتن، وقال إنه قرأ الكتاب “بإمعان”، كما قرأ كثيرا للمستشرقين ولسواهم، “فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام حدة كهذه، حدة في التعبير، على نحو ما كتب الشيخ علي عبدالرازق.. لقد عرفتُ أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدّعي أن الإسلام ليس دينا مدنيا؟ ولا هو بنظام يصلح للحكم؟! فأية ناحية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟”. لم يلحّ التيار المدني العقلاني على ترسيخ معنى الدولة، وأنها كيان يدير شؤون الدنيا، وليس من مهام الدولة اصطحاب المواطنين إلى الجنة، ويجب ألا يكون لها دين إلا القانون، ولكنها في الوقت نفسه تقف بحياد على مسافة واحدة من الأديان، وتحمي المؤمنين والكافرين على السواء. بدلا من ذلك نقّب هؤلاء عن أدلة “شرعية”، من القرآن والأحاديث وسلوك الصحابة واجتهاد الفقهاء، يتسلحون بها على نفي مفهوم الدولة الدينية. هكذا ذهبوا للاحتجاج على دعاة الدولة الدينية إلى الأرضية نفسها، وهناك ستكون الغلبة للأقوى حجة وتأييدا من جماهير يستهويها أي صوت عال يحذر صاحبه من عواقب “الطعن في الدين”. ولو أن هؤلاء العقلانيين نقلوا السجال بعيدا عن الخطاب الديني لضمنوا، مع الوقت والتجربة، أنصارا لا يزالون يستجيبون بحسن نية للمتاجرين بإخافة الناس على الإسلام. وكما تحمس سعد زغلول للمزايدة على منتقدي علي عبدالرازق، فقد تبنى مسلسل “الاختيار” خطابا دينيا مضادا لخطاب الإرهابيين، حتى أن بطله الضابط الشهيد أحمد منسي بدا شيخا سلفيا لا يكفّ عن إلقاء مواعظ دينية يؤكد بها للجنود أنهم الأقرب إلى الله، وأنه سينصرهم لأنهم على الحق المبين. ويتناصّ خطاب الضابط والجماعات الإرهابية، إذ ينفي الضابط صفة الإرهاب عن الإرهابيين، مؤكدا أنهم تكفيريون، مستخدما التعريف القاموسي للإرهاب، مستندا إلى تأويلات فقهية قديمة لم يمسها تطور المصطلح، ويستشهد بآية “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم”. ولا يزال شعار تنظيم الإخوان تلخصه كلمة/أمر “وأعدوا” أسفل السيفين المتقاطعين. بعد إبراء الإرهابيين من تهمة الإرهاب يَعدُ الضابط جنوده بالنصر، مراهنا على أن “الله عادل”، ويطلع على النيات. وليس هذا شرطا لأي نصر، فقد كانت قضية المسلمين عادلة في غزوة أحد، ونياتهم خالصة لوجهه، ولكنهم هزموا لتخلّيهم عن الالتزام بالمهام العسكرية. وفي هذا المعسكر حضر الخطاب الديني ليجعل مداهمات أوكار الإرهابيين نسخا عصرية من غزوات المسلمين قبل فتح مكة. لدى كلا الفريقين خطاب ديني يواجه به الآخر، ثم تندلع النيران من الرؤوس، ويتبادلان القصف في أرض يدّعي الإرهابيون أنهم يريدون أن يقيموا عليها الخلافة ابتغاء مرضاة لله. لم يركز الضابط على توعية الجنود بقيمة الوطن، الثابت المطلق الذي بضياعه لا وجود لدين ولا كرامة لمتدينين. وتحت راية الوطن يستوي المؤمن بأي دين وغير المؤمن. وفي أحد المشاهد إشارة إلى أن الجيش تسلّم هذه الأرض كاملة من الأسلاف، وهو جدير بحمل أمانة تسليمها كاملة إلى الأجيال اللاحقة. ولا يجرؤ جندي على طرح هذا السؤال الذي سجن بسببه غيورون على تراب مصر “وأين تقع جزيرتا تيران وصنافير المصريتان في هذا المعادلة؟”. كان يُنتظر من مسلسل “الاختيار” أن يكون اختيارا بين الوطن، والانتماء إلى تنظيم يرفض الوطنية، الدولة الحامية، والجريمة عابرة الحدود والجنسيات، حكم القانون، وقتل الأبرياء باسم الشريعة، الحرية، وإجبار الناس على صيغة تجعل الحياة مستحيلة. لم ينقص المسلسل إلا ابن تيمية، فحملت إلينا الحلقة رقم 20، الأربعاء 13 مايو 2020، الواعظ الأزهري الشاب رمضان عبدالمعزّ، إلى المعسكر في سيناء، لكي يؤكد للجنود أن “ابن تيمية بريء من ملف التكفير”. ليس المعسكر قاعة بحثية للدفاع عن ابن تيمية أو تحميله مسؤولية الدماء، فالسياق لا يخص ثنائية الكفر والإيمان، وإنما الدفاع عن أرض يستبيحها خَوَنة ومرتزقة محترفون دفاعا عن أوهام متوارثة. ماذا يهم جنديا مسيحيا أو غير مهتم بالفقه لكي يتوجه إليه رمضان عبدالمعزّ بإيضاح شروط التكفير “عشان تكفّر واحد وتقول: كافر، يلزمك شرطين…” (حرفيا). وفي الحلقة 22 من المسلسل استقبل الضابط في بيته صديقا سلفيا تكفّل هو الآخر بتبرئة ابن تيمية “شيخ الإسلام المجاهد” مما يفعله التكفيريون. ما يخص الجندي في أي جيش وطني أنه يدافع عن وطنه، ويتصدى لمعتدين لا تفرق رصاصاتهم بين مسلم ومسيحي، مدني وعسكري. ولن يكون ابن تيمية طرفا في حرب يخوضها الجنود في سيناء، فابن تيمية يعشش في رؤوس تحمل عمائم، ولديها سلطة روحية، وتفتي أحيانا بقتل من تراهم مرتدين، ثم تسوّغ القتل في المحكمة. بعد استشهاد العقيد رامي حسنين قائد الكتيبة 103 صاعقة بالعريش في شمال سيناء، حل مكانه في قيادة الكتيبة المقدم أحمد منسي، بطل مسلسل “الاختيار”، وكلاهما استشهد على أيدي من يتبنون أفكار ابن تيمية. ثم أنتجت الدولة مسلسلا تلفزيونيا يدافع عن المحرّض على القتل، ويؤكد للشعب أن التكفيريين أساؤوا تأويل ابن تيمية، وأنهم لا يمثلون وجهه السمح. ولو أجري بحث ميداني عن التأثير النفسي للمسلسل، فلن تعثر على متشدد أعاد النظر في رؤيته لابن تيمية، وأما الذين كانوا يسيئون الظن بابن تيمية فقد يجدون أنفسهم مدينين بالاعتذار إليه. ليت مسلسل “الاختيار” استهدف أيضا إسرائيل بحصّة تليق بكونها عدوا يجسد إرهاب الدولة، وهي قطعا عدو حقيقي ودائم إلى أن يزول، مثل أي ظاهرة استعمارية مضادة لحركة التاريخ، ولا يمكن تبرئتها من الإرهاب الجاري في سيناء. وعبر خُطب ازدحم بها المسلسل كان يمكن إنعاش الذاكرة بأن إسرائيل لا تزال تحلم بسيناء، وفي عام 2014 صدر في لندن كتاب “الحرب القادمة بين مصر وإسرائيل”، وبعد عامين صدرت ترجمته في القاهرة، وفي 20 أكتوبر 2016 نشرتُ عنه في صحيفة “العرب” مقالا عنوانه “سيناريو حرب قادمة بين مصر وإسرائيل: سيناء أرض ميعاد”، ويسهل الرجوع إليه لمعرفة ما ذكره مؤلفه إيهود إيلام المجند السابق في فرقة الأسلحة المضادة للطائرات، وقد عمل بعد حصوله على الدكتوراه في وزارة الحرب الإسرائيلية. نتجاهل عدوا إستراتيجيا ولو في سياق مواجهة عدو تكتيكي لا يختلف خطابه إلا في الدرجة، لا النوع، عن خطاب سلفي أراحنا منه فايروس كورونا بإغلاق المساجد قبل شهر رمضان، ثم جاء رمضان بمسلسل “الاختيار”، كأن الحكومة تحاكي مثلا شعبيا، فتقول “أدعو على الإرهابيين وأكره من يقول: آمين”.

مشاركة :