العاملة المباركة - عبدالمجيد بن محمد العُمري

  • 6/18/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

إذا أراد الله أمراً هيأ له أسبابه، فهذه عاملة منزلية فقيرة جعلها الله سبباً مباركاً، فهي لم تتم تعليمها وضحت بأطفالها وزوجها وتجرعت مرارة الغربة والبعد عن ذويها لتؤمن لقمة العيش لأسرتها وشيئاً من المال يكون سبباً بإذن الله في تعليم أبنائها مستقبلاً حين حرمت منه بسبب الفقر. شدت الخادمة حقيبتها وركبت الطائرة لأول مرة في حياتها إلى جاكرتا وبعد دورة تدريبية يسيرة على الأعمال المنزلية حطت رحالها في منطقة القصيم وتحديداً في مدينة بريدة، للعمل لدى أسرة ثرية وكبيرة العدد ومعها عاملات أخريات من جنسيتها مما آنسها في غربتها، ولكن هذه العاملة سرعان ما اندمجت مع الأسرة وأحبتهم وأحبوها وأضحت تحس أنها بين أهلها كيف لا وقد لقيت منهم المعاملة الحسنة، ولمسوا فيها الصدق والأمانة والإخلاص وتيسر لها أداء العمرة عدة مرات فصاحب المنزل الشيخ الثري يتردد بين منازله ومزارعه في بريدة ومكة المكرمة فأصبحت ترافقهم. لقد عاشت وسط بيوت ضخمة مليئة بالخيرات والنعم فيما كان منزلها وأسرتها بسيطاً كثير التضرر من هطول الأمطار الغزيرة ولكنها لم تجرؤ في يوم من الأيام أن تطلب لنفسها وأهلها غير مرتبها، وقد رأت العاملة الكثير من ذوي الحاجة ممن يترددون على صاحب المنزل وما يقدمه لهم من دعم ومساندة في الداخل والخارج، ولكنها في يوم من الأيام تشجعت وفاتحت زوجة مكفولها رجل الأعمال وطلبت منها أن تبلغ زوجها برغبتها ولكن بماذا..؟ لقد فاتحتها برغبتها في أن يتم بناء مسجد في قريتها. نعم كان همها عالياً ولم تطلب لنفسها أو لأسرتها بل لقريتها كاملة، وأي طلب فليس أمراً دنيوياً بل ارتقت همتها لبناء بيت من بيوت الله، ولم يخب طلبها ووافق الرجل على تحقيق ما رغبت على الفور وطلب منها عنوان من في القرية ليوفد من يقف على المشروع. أبلغ رجل الأعمال من يثق به من المشايخ لبحث الطلب والتحقق منه فبادر هذا الوسيط بالاتصال على الشيخ المقيم للعمل في جاكرتا ونقل له الطلب وأنه يرغب في التأكد من المصداقية والحاجة، ولم يتردد هذا في تكليف اثنين من خيرة الدعاة الإندونسيين في الشخوص إلى القرية وهي في جزيرة نائية وبعيدة في غابات سوكابومي، وبالفعل ذهبا وتأكدا من حاجة القرية للمسجد ووقفا على الأرض المخصصة وقدرا كلفة البناء، فتم معاودة الاتصال وإبلاغ الوسيط، والإفادة عن الحاجة الماسة للمسجد، وأن أهل القرية فقراء للغاية ولا يتوافر لديهم المال لإقامة البناء المناسب هناك، وحددا الكلفة الإجمالية للجامع ما يعادل تسعين ألف ريال. ويواصل الشيخ المقيم للعمل في جاكرتا حديثه بعد ذلك قائلاً: رد علي مباشرة الوسيط وأخبرني بموافقة الشيخ الوجيه ورجل الأعمال الذي لا أعرفه ولا يعرفني، وقد تكفل ببناء المسجد كاملاً كأول مشروع له في إندونيسيا، وحينما انتهى المشروع وتم تزويدهم بتقرير متكامل عنه وصوراً لأول صلاة جمعة هناك، ولربما سبقنا أهل العائلة بإرسال صور المسجد منذ بدايته حتى اكتمل وقد سر الجميع ولله الحمد بما تحقق. بعد مدة احتاجت الجامعة العامة في مدينة جامبي بسومطرة لبناء جامع داخل الجامعة حيث كانت الجامعة تضم مصليين صغيرين لا يتسع الواحد منهما لثلاثين مصلياً فقط، ولذا فلا تقام عندهم صلاة الجمعة وكانت الميزانية المقدرة لبناء الجامع مائة ألف دولار، فطلبت من الرجل المبارك رجل الأعمال أن يتكفل بالمشروع الثاني فوافق وتم- ولله الحمد- على أتم وأكمل وجه ومازال بناءً شامخاً تقام فيه الجمعة والجماعات، وبعد ذلك وفي جامعة فالو بمنطقة سلاويسي جاء نفس الطلب وتكفل به الرجل المبارك وبكلفة تزيد على المائة ألف دولار وسر المتبرع كسرور القائمين عليه عند تمامه، وكانت كل جامعة بحاجة لهذين المسجدين إلا أن نظام الجامعات ووزارة التعليم العالي في إندونيسيا لا يدعمان بناء المساجد مادياً داخل المرافق الحكومية رغم أن أغلبية السكان من المسلمين مراعاة لغيرهم وحتى لا يطالبون ببناء دور لعباداتهم فأغلقوا هذا الباب. تتابعت المشروعات في الجامعات حيث طلبت جامعة مولانا الملك إبراهيم في مالنغ الشرقية، وكذلك الجامعة الأهلية في جاكرتا احتاجوا إلى مكتبات علمية ولم يتردد رجل الأعمال أيضاً في تلبية طلباتهم وتحقيق رغباتهم ودعم الجامعتين بتأمين مكتبات عربية عامة تشمل العلوم الشرعية والاجتماعية والإنسانية بل وحتى الطب والحاسب الآلي والهندسة وسائر العلوم والفنون وبمختلف اللغات العربية والإنجليزية والإندونسية، وبمبالغ تصل إلى ثلاثمائة ألف ريال للمكتبة الواحدة وأصبحت هذه المكتبات من المكتبات العلمية المشهورة في مواقعها ومقصداً للطلاب والباحثين، وتلا ذلك الجامعة الإسلامية الحكومية في ميدان عاصمة سومطرة الشمالية الذين كان لديهم مشروع مركز اللغة العربية وهو مشروع شامل يضم الفصول المقامة في ثلاثة أدوار وتضم أربعة من المعامل كل معمل منها يتسع لثلاثين طالباً ومكتبة خاصة مع المباني الإدارية والمرافق الأخرى وكانت كلفة المشروع ثمانمائة ألف دولار فجرت الموافقة وبكل أريحية ورحابة صدر، وتناقلت الأوساط العلمية والمجتمع الإندونيسي الأخبار عن هذه المشروعات القيمة وسمعوا برجل الأعمال السعودي الذي يرفض ذكر اسمه على أي مشروع، فطلبت جامعة مكسار في عاصمة سومطرة الشمالية مثل هذا المشروع الأخير فتكفل به وأنشأه كسابقه، ثم معهد كونتر بجامعة السلام احتاجوا لمركز متكامل لخدمة السيرة النبوية وتم التكفل به كاملاً، وفي معهد آخر أرادوا توسعة أقسام الطالبات فتكفل بالمباني الجديدة بما يقرب من خمسمائة ألف ريال، وكان في كل مشروع يرفض ذكر اسمه على المشاريع ويطلب أن يكتب فاعل خير إلا في جامعتي ميدان ومكاسار فقد أصر المسؤلون بهما على وضع اسمه في اللوحة التذكارية للمشروعين فقبل على مضض. وأعود للعاملة المباركة التي كانت فاتحة خير على أهلها وبلادها وسبباً مباركاً في تدشين هذه المشروعات بملايين الريالات، فقد كان مسجد قريتها بفضل الله ثم بإخلاصها وصدقها مفتاحاً لجميع هذه المشروعات اللاحقة. ويضيف الشيخ المقيم للعمل في جاكرتا: إن هذه العاملة المباركة كانت سبباً في وضع حد لتطاول بعض وسائل الإعلام المغرضة التي تسيء للمملكة العربية السعودية وتدعي سوء التعامل مع الأخوات العاملات هناك فكنت أتحدث مع بعض المسؤولين الإندونيسيين وأضرب لهم مثلاً بهذه الخادمة وكيف تم التعامل معها وكيف كانت سبباً مباركاً في خدمة أهلها ومجتمعها وبلادها وكانت قصتها أيضاً خير شاهد على حسن المعاملة وتكذيب الإساءة، بل وأصبح المسؤلون الإندونيسيون أنفسهم يتناقلون قصتها ومنهم وزير الشؤون الدينية الأسبق محمد بسيوني الذي كان يقول عنها (عاملة البركة) فلله درها وأحسن الله إليها. الطريف في الأمر أن المشاريع الأولى نفذت وكلا الرجلين (الشيخ المقيم للعمل في جاكرتا ورجل الأعمال) لم يسبق لهما أن التقيا من قبل، ويقول الشيخ في إحدى الإجازات أتيت من جاكرتا إلى بريدة للسلام على والدتي -رحمها الله- والأهل، وصادف أن رجلاً كبيراً في السن من الأقارب -رحمه الله- كان في المستشفى فذهبت لزيارته وعيادته والسلام عليه وحينما دخلت المبنى رأيت في ممرات المستشفى رجلين كبيرين في السن وكل منهما يتكئ على عصا، وبعد دخولي على المريض وإذ بالرجلين- حفظهما الله- يدخلان على مريضنا أيضاً لعيادته والاطمئنان عليه، فحياهما ابن المريض وعرفني عليهما وقال: هذا أبو فلان يعمل في إندونيسيا فنظر لي أحدهما وتبسم في وجهي ولم ينبس بكلمة سوى (حياك الله)، ثم عرف بهما فإذا أحدهما هو الرجل المحسن والمبارك الذي مول المشروعات ودعمها من الألف إلى الياء؛ نعم هذا هو الرجل الخيّر ألتقي به لأول مرة وأين؟! في عمل مبارك هو زيارة مريض. خرج الرجلان ولحقت بهما واستوقفت صاحبنا المحسن وقبلت رأسه وشكرته على إحسانه فإذا به يقول الفضل لله عز وجل ثم الشكر لك أنت صاحب المعروف والخير حينما دليتني على الخير وساعدتني عليه فشكر الله لك وللإخوة في السفارة السعودية هناك على ما قمتم به من جهود وتعاون في دعم التعليم ونشر الخير ومساعدتي في الإشراف على التنفيذ.

مشاركة :