حسّونة المصباحي (برلين) مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، فارّا من التهجّمات العنيفة التي كان يتعرّض لها بسبب تعاطفه مع النازيّة خصوصا في بداياتها، أدّى الفيلسوف الألماني الكبير مارتن هايدغر زيارة لفرنسا التي كان مفكّروها ومثقّفوها الكبار يجاهرون بإعجابهم الشديد بفلسفته الوجوديّة، غير أن «صاحب الوجود والزّمن» فضّل عدم الالتقاء بالفلاسفة في بلاد ديكارت. ومصحوبا بصديقه ومترجمه، جان بوفريه، اختار زيارة الشّاعر الكبير رينيه شار الذي كان يقيم آنذاك في مسقط رأسه «ليل سور سورغ» في جنوب فرنسا. وتحت شجرة كستناء وارفة الظّلال، حول طاولة وضع عليها الجبن والخبز الأسود، دار حوار طويل بينهما حول الشعر والفلسفة. وكما هو معلوم، كان هايدغر عاشقا للبعض من مشاهير الشعراء الألمان من أمثال هولدرلين، وغيورغ تراكل، وشيلّر، وراينار ماريا ريلكه، وعنهم كتب دراسات في غاية العمق والأهميّة. ومن المؤكّد أنه كان معجبا أيضا برينيه شار. وهذا ما يفسّر حرصه على الالتقاء به. ولا شكّ في أن رينيه شار كان مطّلعا على فلسفة هايدغر، وعارفا بماضيه النّازي. مع ذلك لم يبد أيّ تردّد في استقباله هو الذي كان قائدا لحركة المقاومة خلال الاحتلال الألماني لبلاده. وقد دوّن جان بوفريه وقائع ذلك الحوار العميق بين الفيلسوف والشاعر ليكون وثيقة هامّة وأساسيّة في ما يتّصل بالعلاقة بين الفلسفة والشعر. كتب بوفريه يقول: ”الحوار لا يسعى أبدا إلى الحطّ من قيمة الآخر، والتّنقيص من شأنه مثلما تفعل الفلسفة في ادّعائها بأنّها تضيف إلى مجمل إنقاصاتها، استيتيقا تجعل الشعر في النهاية موضوعا لتفسير الفلسفة، وإنّما هو - أي الحوار - يثابر على السّماح له بأن يكون. لذلك يقول رينيه شار بأنّ «هايدغر هو أوّل فيلسوف لم يحاول أن يفسّر من أنا، وماذا أفعل”. هايدغر ينصت أكثر ممّا يفسّر. ومن هذا الإنصات الذي يلامس حدود الصّمت، تولد محاولة التّواصل من دون جواب، إذ إنّ الجواب كان قد حوّل ما يمكن التفكير فيه إلى مشكلة، أي كما يوضّح ذلك لايبنيتز، إلى مقترح يترك جزء منه فقط للبياض... تماما مثلما نحن نطلب العثور على مرآة تلتقط كلّ انعكاسات أشعّة الشّمس في نقطة واحدة. والشّاعر هو بالتّأكيد تلك المرآة. لكن من دون توجّب العثور عليه. ولأنّه لا يتوقّف أبدا عن التّواري والتّخفّي بهذه الطريقة، لذا هو خطر على الفكر، لكنه خطر لا ينفي الخلاص». ويستشهد جان بوفريه بجملة لهايدغر يقول فيها: ”الحوار مع الشّعر، إذا ما كان حوارا ينطلق من الفكر... يكون دائما خطرا يهددّ بتعكير صفاء القصيدة الشعريّة عوض أن تترك لها روعة صوتها». لذلك، يكون الحوار بين الشاعر والشاعر أقلّ خطرا من الحوار بين الفيلسوف والشّاعر. وهذا ما تثبته حوارات شعراء من أمثال هولدرلين، ورونسار، وفيكتور هوغو، مع الشّعراء الإغريق، أو الرّومان. كما تثبته حوارات رينيه شار من خلال بعض قصائده مع رامبو، وبودلير، وملاّرميه. غير أن الشعر يمكن أن يتحاور مع الفكر من دون أن يفقد جمال صوته، وصفاء كلماته.
مشاركة :