اختتم ملتقى جدة للدراسات النقدية الذي تستضيفه جمعية الثقافة والفنون بجدة موسمه هذا العام بجلسة صاخبة النقاش تناولت ورقة قدمها الناقد د. عادل خميس الزهراني أستاذ النقد الحديث المشارك بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، تحت عنوان (ما بعد الإنسان وما بعد الإنسانوية: مقدمة في المفاهيم والمنطلقات النقدية). الزهراني قدم في الورقة -وفي الجلسة الافتراضية على موقع زوم- فكرة عامة عن حركة (ما بعد الإنسانوية)، التي تضم مراجعات شاملة للخطاب الإنسانوي الحديث، حيث قامت على مساءلة الأطروحات الغربية التي تشكلت منذ عصر التنوير، وركزت عموماً على كرامة الإنسان، وتفوقه في النظام الكوني. يرى النقد ما بعد الإنسانوي -كما وضح الناقد الزهراني- أن هناك ثغرات وملاحظات في الخطاب الإنسانوي، أدت إلى عواقب لم يحسب حسابها، مثل الحروب المدمرة، واستغلال شعوب العالم الثالث، والهوة بين الغرب والشرق، وضياع حق المرأة، وصعود نبرة العنصرية وغير ذلك. وتحدثت الورقة عن ثلاثة اتجاهات عامة في الخطاب ما بعد الإنسانوي، مع أهم الأسماء المؤثرة في كل اتجاه: 1) الاتجاه النقد/فلسفي: وفيه حديث عن أهم المنطلقات الفكرية والنقدية للحركة، ومدى تأثير الحركة النسوية والدراسات الثقافية والنقد ما بعد الاستعماري في تشكيل الإطار الفلسفي للحركة. 2) الاتجاه الكائني: الذي يضع الإنسان في سياقه، ويهتم بتصحيح الصورة عن مكان الإنسان في الكوكب باعتباره مجرد كائن مشارك، ضمن كائنات أخرى يعج بها الكون. 3): الاتجاه التقني: وهو الذي ينظر عن كثب للعلاقة بين الإنسان والتطورات التكنولوجية في علوم الاتصال والطب والأحياء وغيرها، ومدى تأثير التقنية في عالم الإنسان، ومدى إمكانية انتقال البشرية للمرحلة التالية من تطورها نتيجة لتلك العلاقة. كما تشير الورقة إلى دور الأدب ووظيفة النقد في كل اتجاه من اتجاهات ما بعد الإنسانوية الثلاثة. وقد شهدت الورقة نقاشاً مستفيضاً وساخناً شارك فيه أعضاء المنتدى، كان منهم الناقد د. سعيد السريحي، مؤسس المنتدى، الذي رأى أن الورقة "تفتح آفاقاً عابرة لكثير من العلوم والتخصصات وتجمع بين قلق المعرفة وهواجس الوجود الإنساني"، وهو ما دفعه "لمزيد من الاستغراق في النظر إلى الوباء وذلك باعتباره مشروعاً لا إنسانوياً يتوج ما كان الفلاسفة يسعون إلى تأسيسه من تقويض للإنسان الذي ظن نفسه قادراً على كل شيء فاكتشف أنه عاجز عن كل شيء". وربط السريحي -في التقاطة ذكية- بين الوباء ونزعة التقويض في الخطاب ما بعد الإنسانوي، حين قال إن "هذه النزعة التدميرية التي تقف وراء الفلسفة اللا إنسانوية يكاد أثرها يشبه ما تتركه الأوبئة والجوائح حين تعري الإنسان وتفضح غروره وأوهامه وشعوره بالتفوق والاستعلاء، ولعل هذا ما جعلني أتساءل، وأنا العاجز عن إقامة مسافة بين ما أعيشه وما أفكر فيه، عما إذا كان الوباء الذي تعاني منه البشرية اليوم استكمالاً للمهمة التي أرسى قواعدها المفكرون الذين أعلنوا موت الإنسان وكشفوا عن حجم اغتراره بما بلغه من العلم والمعرفة". بدوره اعترض أستاذ النقد والنظرية د. صالح زيّاد على المنظور الإيجابي الذي صبغ حديث الورقة عن هذه الحركة التي لا تخلو -خصوصاً في خطابها التقني- من سعي "لتهميش العلوم الإنسانية وتلاشي حضور الإنسان وتشييئه حين أصبح يخضع للتجربة كغيره من الأشياء" وهي بذلك تقع فيما حذرت منه، وانتقدته في الخطاب الإنسانوي. "تذهب دلالة "ما بعد الإنسانوية" في المجمل، أكثر ما تذهب الآن، إلى الدلالة على وقائع الثورة الرقمية، ثورة الحاسبات الإلكترونية، ونتائجها المذهلة في الذكاء الاصطناعي، تلك التي أصبح الوجود الإنساني معتمداً عليها، ومن ثم محجوباً بها". وقد اتفق معه د. صالح معيض، حين أخذ على الورقة تغييب الصوت المعارض. الزهراني اتفق مع الرأييْن، لكنه أكد أن هناك توجهاً واضحاً الآن من أصحاب الاتجاه الأول (النقد/فلسفي) للنأي بخطابهم عن ما بعد الإنسانوية التقنية، معتبرين هذه الأخيرة تدخل ضمن ما يدعى بفوق-الإنسانوية (ترانسهيومنزم)، كما أكد أن الحركة واجهت جدلاً محتدماً ومتشعباً جداً بين المتحمسين والمعارضين لخطاب ما بعد الإنسان، لكنه استدرك بالقول إن هذا مصير كل الحركات والموجات الفكرية، فليس هناك أي حركة إنسانية لم تنج من النقد والمعارضة والرفض والاختلاف. مترجم كتاب (اللغويات الأخلاقية)، واللغوي د. عبدالله الخطيب اشتكى من غموض المفهوميْن (الإنسانوية وما بعدها) حتى أصبحا من الصعب تأطيرهما في دلالات واحة ومحددة، مقارناً إياهما بمفهوم (البراغماتية) الذي تشعّب جداً، في الدراسات اللغوية والأدبية. ولم يخفِ الخطيب انزعاجه من "الاستعمال المفرط للعلاقة (بين الإنسان والآلة). تلك العلاقة التي كانت ولا تزال موضع نقاش وجدل معرفي وإنسانوي كبير". وخلص إلى أنه "بالرغم من أن واجب الإنسان أن يذهب حيث يشاء في طريق العلم والإبداع والاختراعات، والتي من ضمنها حقل الروبوتات المدهش، إلا أنه في الوقت نفسه، وفي هذا المجال على وجه التحديد، أحرص على القول والتذكير أنه من واجب الإنسان أيضًا أن يتوجَّس من هذا النوع من الممارسات، والتي من ضمنها هنا رغبة الإنسان في الصعود بـ (الرجل الآلي) إلى منافسة الفاعل البشري". وقد أثنى صاحب الورقة على مشاركة الخطيب، وأشار إلى مهارة الخطيب في استخدام تقنية (آبل سيري) باعتبارها نموذجاً، وأداة يمكن من خلالها نقد الخطاب الذي تمثله، وربما إظهار ثغراته. كذلك رأى أستاذ اللغويات الثقافية د. خالد الغامدي أنه من "خلال التطور الفكري لكلمة (الإنسانية) في ادبيات الفلسفة وتاريخ الحضارات وسياقاتها ان كينونتها كينونة صراع جدلي، وانها مترعة بمعاني الحرب وامتلاك السلطة والسيطرة على العالم، ومشبعة بالحقد ضد فكرة المطلق والمتعالي". وأشار الغامدي إلى أنه "بقطع النظر عن الجوانب المفيدة من مكتشفات العلم المعاصر والمستقبل، فمن البدهي انها موضع اتفاق ومحبة وتطلب لا ينقضي، ولكن مقولة "الإنسانية" التي نحن بصددها وما ولدته من تجاوز وبعدية لها مقاصدها الوجودية المختلفة، فهل سيتمكن اصحابها من تحقيق غاياتهم؟ ارى انهم سيحققون منها ما قدر لهم مما في طوق الإنسان عمله، وليس هذا بالغريب ولا المستحيل؛ بل تاريخ البشر والطبيعة هو تاريخ التغير والتغيير، سواء الى الأسوا ام الى الأحسن". ورغم أن الزهراني وضح أنه يختلف مع منطلقات الغامدي، وبالتالي مع نتائجه، إلا أنه أثنى على تعليق الأخير، وتأصيله للمفهوم في التراث العربي. كما شارك في الجلسة كل من د. صلوح السريحي، ود. علياء العمري، ود. أميرة كشغري، وشعلان الشمري، وسلمان السليمان ومساعد الجهني وحسن مشهور ود. عبدالرحمن السليمان وعثمان الزبيدي. وقد حاول صاحب الورقة د. الزهراني -خلال تعقيبه النهائي- مناقشة كل المداخلات، وتفنيدها، وتوضيح ما تفتحه من آفاق في الإطار المعرفي لموضوع ما بعد الإنسانوية. لكنه أكد أن ورقته ما هي إلا مقدمة، زادتها المشاركات قوة، ورأى في هذا مواكبة حقيقية للتطور المعرفي، معلناً أن وجود هذه الحركة حقيقة ماثلة، لا يمكن تجاهلها، ولا تجاهل أي منظومة معرفية أخرى. صالح زيّاد: دعوة لتهميش العلوم الإنسانية وتلاشي حضور الإنسان وتشييئه الخطيب: الاستعمال المفرط لعبارة العلاقة "بين الإنسان والآلة".. يدعو للقلق الزهراني: ما بعد الإنسانوية حقيقة ماثلة والجدل قدَرُ الفكر الإنساني
مشاركة :